طفولته صلى الله عليه وسلم

سيرة خير البرية معين لا ينضب، قضى فيها محمد صلى الله عليه وسلم أربعين عامًا تجلت فيها الصفات الحميدة، لتكون بداية التغيير للعالم السفلي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور التوحيد والعلم.
فبعد أن انتقل مع مرضعته حليمة السعدية لترضعه في مضارب بني سعد بن بكر، على عادة العرب في التماس المراضع لأولادهم، لتقوى أجسامهم، ويتقنوا اللسان العربي من صغرهم، نشأ محمد الصغير صلى الله عليه وسلم، وبها وقف ومشى على قدميه، وبها ضحك ولعب مع أقرانه الصغار.
في تلك المضارب رعى خيرة الخلق الغنم، وسار خلفها وقادها مع إخوانه من الرضاع. وتمر الأيام على رعاة الغنم الصغار، ويبلغ الصغير أربع سنين، وبينما هو يلعب مع الغلمان، إذ به يصرع ويضجع من رجلين عليهما ثياب بيض، لينطلق المنادي إلى أمه بنداء الرعب والخوف، “لقد قُتل محمد”.
وكان ذلك القتل هو حادثة شق الصدر، لقد أضجعه الرجلان، ثم أخرجا منه علقة سوداء فألقياها، فانتهت حظوظ الشيطان منه، ثم غسلا قلبه في طست من ذهب بماء زمزم، ثم أعادا قلبه إلى مكانه، فجاء الصغير إلى القوم وهو منتقع اللون.
يقول أنس رضي الله عنه: “وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره”، فلما رأت حليمة ذلك: خافت على الصغير من أن يصيبه شيء، فاتخذت قرارًا برده إلى أمه الحنون، وكان عندها حتى بلغ الست سنوات، لتتحرك عاطفة آمنة وشوقها إلى حيث توفي الزوج ويقطن الأهل، فعزمت على السفر إلى يثرب.
تحركت المطايا، ومكثت شهرًا في يثرب، ليحين بعد ذلك وقت الرجوع، وفي طريق السفر بين يثرب ومكة توقفت المطايا في مكان يحمل في طياته ذكرى لا تزال عالقة بذاكرة الحبيب حتى بعد النبوة، فمرّ يومًا على قبر فانتهى إليه وجلس، وجلس الناس حوله، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب، كما يروي ذلك بريدة رضي الله عنه، ثم بكى بكاء لم يبكه من قبل، فاستقبله عمر فقال: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: “هذا قبر آمنة بنت وهب”.
انتقل محمد الطفل صلى الله عليه وسلم إلى جده عبد المطلب، الذي رق له رقة شديدة، فكان لا يدعه وحيدًا، بل جعله مقدمًا على أولاده وبنيه. وكان لعبد المطلب فراشًا لا يجلس عليه غيره إجلالاً له واحترامًا، فكان محمد الصغير صلى الله عليه وسلم هو الوحيد المصرح له بالجلوس، فيأتي الأولاد والأبناء ليُبعدوه، فيقول الجد: “دعوه، والله إن لهذا شأنًا”
وتمر الأيام ويبلغ الصغير ثماني سنوات، ليكون على موعد جديد مع الآلام، فها هو عبد المطلب يوارى الثرى، لتكون وصيته الأخيرة، أن يكون الصغير عند عمه أبو طالب الذي نهض باليتيم على أكمل وجه، وضمّه إلى بنيه وقدمه عليهم، واختصه بمزيد احترام وتقدير.
وتمر الأيام ويأتي على قريش سنوات عجاف، أجدبت لها الأرض، وكاد يهلك بها القوم، فبات الناس في شظف من العيش، فما كان من قريش إلا أن طلبوا من سيدهم أبا طالب أن يستسقي لهم، فقد كان أبيض يُستسقى الغمام بوجهه.
خرج أبو طالب يستسقي، والسماء ما فيها من قزعة ومعه الغلام الصغير صلى الله عليه وسلم وبنيه، فأخذ أبو طالب الغلام اليتيم الصغير وهو يتذكر كلمات عبد المطلب “والله إن لهذا شأنًا” فألصق ظهره بالكعبة واستسقى، فأقبل السحاب من كل جانب، وانفجرت السماء بماء منهمر، فقال أبو طالب:
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ثِمالُ اليتامى عصمة للأرامل.

شبابه صلى الله عليه وسلم

وتمر الأيام ويبلغ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة، وفي صيف حار تحركت ركائب قريش نحو الشام، فلما وصلوا إلى بُصرى نزل القوم للراحة، فخرج إليهم بحيرا الراهب ولم تكن من عادته الخروج إليهم، فتخللهم حتى جاء إلى الفتى الصغير صلى الله عليه وسلم.
أخذ بحيرا الراهب بيده وقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال أبو طالب وأشياخ قريش: وما علمك بذلك؟ فقال: “إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خرّ ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنّا نجده في كتبنا”، ثم طلب إليهم ألا يذهبوا به إلى الشام خوفًا عليه من الروم واليهود، فرده أبو طالب بغلمان معه إلى مكة.
وتمر الأيام وقد شبّ النبي الكريم، ولم يكن له عمل معين في أول شبابه، لكن جاءت الروايات وتوالت بأن مهنته كانت رعي الغنم.
لقد كان يسير طوال نهاره خلف الغنم، فرعاها في بني سعد ابتداءً، ثم في مكة على قراريط لأهلها، ومهنة كهذه يُشترط لها الأمانة مع طول النفس، وفيها ما فيها من قسوة ومتابعة، إلا أنها تُثمر قلبا عطوفًا رقيقًا، وواقع حال رعاة الغنم خير شاهد على ذلك.
وبعيدًا عن العمل وهمومه، وبعيدًا عن كدح البحث عن لقمة العيش نقف مع نوازع نفس محمد صلى الله عليه وسلم، ويحدثنا النبي الكريم عن نفسه في تلك الفترة فيقول: “ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء، إلا ليلتين، كلتاهما عصمني الله تعالى منهما. قلت ليلة لبعض فتيان مكة، ونحن في رعاية غنم أهلنا، فقلت لصاحبي: أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر فيها كما يسمر الفتيان. فقال: بلى. فدخلت حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفًا بالغرابيل والمزامير. فقلت: ما هذا؟ فقيل: تزوج فلان فلانة. فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس. فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما فعلت شيئًا، ثم أخبرته بالذي رأيت. ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة. ففعل، فدخلت، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فسألت، فقيل: فلان نكح فلانة، فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ قلت: لا شيء، ثم أخبرته بالخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدها لشيء، حتى أكرمني الله بنبوته”.
إنها الرعاية الربانية، تقف للحيلولة بينه وبين تلك النوازع، ولذلك جاء في الأثر: “أدبني ربي فأحسن تأديبي”، وتمر الأيام ليبلغ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم العشرون عاما، ليشهد حربًا وقعت في شهر حرام، تُسمى بحرب الفِجَار التي وقعت في سوق عكاظ بين قريش ومعهم كنانة وبين قيس عيلان، فاصطف القوم ووقعت حرب ضروس، وكان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يجهز النبل للرمي، وكثُر القتل في الطرفين، حتى رأى عقلاء القوم أن وضع أوزار الحرب والاصطلاح خير من الملحمة، فهدموا ما بينهم من العداوة والشر، وعلى أثر ذلك حصل حلف الفضول.
تداعت إلى الحلف قبائل من قريش في ذي القعدة، وكان اجتماعهم في دار عبد الله بن جدعان التيمي، فتعاهدوا وتعاقدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وشهد هذا الحلف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وقال عنه بعد أن أكرمه الله بالنبوة: “لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت”
وتمضي الأيام ويبلغ النبي الكريم الخامسة والعشرين من عمره، ليخرج إلى تجارة الشام في مال لخديجة بنت خويلد، بعد أن سمعت بأخبار الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، وجعلت معه غلام لها يُقال له: ميسرة.
ذهب النبي الكريم إلى الشام، فما لبث أن رجع إلى مكة، فرأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم تره من قبل، وحدّثها ميسرة بما رآه من حال الصادق الأمين، فما كان منها إلا أن سعت ليكون الخبر في أرجاء مكة.
عزمت خديجة رضي الله عنها على نية أفصحتها لصديقتها نفيسة بنت منبه، التي قامت بدورها بذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. فرضي بذلك، إلا أن والد خديجة حاول عبثًا الوقوف أمام هذا الزواج، فصنعت طعامًا وشرابًا دعت إليه أبوها وزمرًا من قريش، فطعموا وشربوا حتى ثملوا. فقالت خديجة لأبيها: إن محمدًا بن عبد الله يخطبني فزوجني إياه. فزوجها إياه.
تزوج الشريف الشريفة، وتمر الأيام والأعوام على ذلك البيت الهادئ الجميل، ويُرزق منها بالبنين، والنبي الكريم يُقري الضيف، ويعين الملهوف، وينصر المظلوم، ويكون في حاجة أهله، ويجرف مكة سيل عرم وينحدر إلى البيت فيُصدّع جدرانه حتى أوشك على الوقوع والانهيار، فاتفقت قبائل قريش على إعادة بناء الكعبة.
تبني قريش الكعبة بشرط مسبوق: “ألا يدخل في بنائها إلا طيبًا، فلا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة لأحد من الناس”، ويشارك النبي الكريم صلى الله عليه وسلم صاحب الخمسة وثلاثين عامًا في البناء، ويحمل الحجارة من الوادي مشاركًا قومه في مثل هذا الحدث العظيم.
يرتفع البناء ويعود للبيت جلاله وهيبته، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود حصل الاختلاف، وتنازع القوم في شرف وضع الحجر الأسود أربع ليال أو خمس حتى كادت الحال أن تتحول إلى حرب ضروس، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد.
ارتضى القوم بذلك، فإذا بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب يكون ذلك الداخل. فهتف القوم: أن رضينا بالأمين. طلب عليه الصلاة والسلام رداءً فوضع الحجر وسطه، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعا بأطراف ذلك الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه.
وتمر الأيام وغربة النبي الكريم تزداد يومًا بعد يوم، فوجوه يعرفها، وأحوال ينكرها، كان ذا صمت طويل يزدان بالتأمل والنظر، لقد كانت تلك الفطرة التي جُبَل عليها تمنعه من أن ينحني لصنم، أو يهاب وثنًا، فاعتزل القوم لما رأى من سفاهة أحلامهم، وتفاهة عقولهم، فكان عليه الصلاة والسلام لا يحضر عيدًا لوثن، ولا يشهد احتفالاً عند صنم، ولا يحلف باللاّت، ولا يتقرب لعزى، ولا يشرب خمرًا، ولا يأكل مذبوحًا على نُصب، فأبغض ذلك كله. يقول زيد بن حارثة، مولي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: “فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنمًا حتى أكرمه الله بالذي أكرمه وأنزل عليه”، فقد كان عليه الصلاة والسلام موحدًا على ملة إبراهيم الخليل عليه السلام.
لقد جمع الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم من الأوصاف والشمائل ما جعلت محبته لا تقف عند البشر، بل تتعداه إلى الحجر والشجر، ويقول عليه الصلاة والسلام بعد أن أكرمه الله بالرسالة: “إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث”.
وتمر الأيام حتى بدأ طور جديد من حياته صلى الله عليه وسلم، فكان يرى الرؤية ثم لا يلبث حتى يراها واقعًا مشهودًا أمامه، فكان ذلك بداية بشرى النبوة والرسالة والاصطفاء، لتكون البداية الحقيقية في الغار بآية {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1].

وينادي المنادي في أصقاع المعمورة: إن محمدًا قد بُعث، وإذا بعقارب السنين والأعوام قد دقت الأربعين، فصلوات ربي وسلامه عليه، تلك الأربعون من عمره كانت تتصف بالعراقة، فكيف بما بعد الأربعين، حين بُعث إلى العالمين.

المصدر:
موقع قصة الإسلام

اترك تعليقاً