أحيانا يتوجه النبي صلى الله عليه وسلم بطلب الشورى والتعرف على آراء المسلمين الحاضرين معه, نجد ذلك واضحا في استشارة النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة الذين خرجوا معه قبل معركة بدر.

يروى ابن هشام ذلك بقوله “وأتاه الخبر عن قريش بمسيرتهم يمنعون غيرهم, فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش , فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن, ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن , ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “أشيروا على أيها الناس” وإنما يريد الأنصار وذلك لأنهم مدد الناس وإنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا “يا رسول الله إنا براء من زمامك حتى يصل من ديارنا, فإذا أنت وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك من ما نمنع منه أبناءنا ونساءنا”, فكان رسول الله يتخوف ألا تكون الأنصار تري عليها نصرة إلا من دهمه من المدينة من عدوه, وأن ليس لهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم, فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سعد بن معاذ “والله لكأنك تريدنا يا رسول الله, قال أجل, قال آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة, فامض يا رسول الله كما أردت نحن معك, فوالله الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد, وما نكره أن تلقي بنا عدونا إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك, فسر بنا على بركة الله“, فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك, ثم قال “سيروا وابشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين, والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم“.

فكان لالتزام القائد بمبدأ الشورى وتعرفه على آراء جنده أثر في التخطيط الناجح للمعركة ورفع معنويات الجنود, فكانت الشورى عاملا مهما في تحقيق النصر.

وبعد معركة بدر استشار النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة في كيفية معاملة أسري بدر, فأشار عليه عمر بن الخطاب بقتلهم لأن هؤلاء الأسري كانوا صناديد المشركين وقاداتهم وأئمتهم, وأما أبو بكر فقد أشار على الرسول صلى الله عليه وسلم بأخذ الفدية لأنهم بنو العم والعشيرة والإخوان, كما أن أموال الفدية ستساعد على تقوية المسلمين, وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي الفداء لما رأي جمهور أصحابه يريدون ذلك. ثم نزلت الآيات القرآنية: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * َلوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنفال:67إلى 69]، وفي الآية عتاب واضح لرسول الله وأصحابه لأخذهم بخلاف الأولى وقبولهم بالفداء, فالموقف كان يتطلب القوة والحزم والشدة مع المشركين, ثم أجاز الله عملهم وأخذهم الفداء لعدم ورود نص مسبق ينهي عن ذلك, وفي ذلك إشارة إلى الجواز في الأمور التي لم يرد فيها نص.

وربما اقتصرت الشورى على البعض دون الكل, وأحياناً مشاورة الناس عن طريق ممثليهم أو زعمائهم أو أهل الخبرة فيهم, ففي بيعة العقبة الثانية طلب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أن يخرجوا له اثني عشر نقيباً, تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس, وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلى المدينة المنورة فقد اختار أربعة عشر رجلاً وكان يرجع إليهم في الرأي.

بل كان للنبي صلى الله عليه وسلم أقرب إلى هيئة استشارية يستشيرهم في القضايا العامة تضم كبار الصحابة , منهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب, أورد الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أبو بكر وعمر: “إن الناس ليزيدهم حرصاً على الإسلام أن يروا عليك زياً حسناً”, قال “وايم والله لو أنكما تتفقان على أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبداً”، وفي رواية “ولو أنكما تتفقان في مشورة ما خالفتكما”.

وربما كانت المشاورة لأصحاب الشأن وأهل الخبرة دون غيرهم, فمثلاً أثناء حصار الأحزاب للمدينة سنة 5هـ فلما اشتد البلاء بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المري قائد غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابا إلى ذلك, فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقالا: “يا رسول الله شيء تحب أن تصنعه أم شيء أمرك الله به أو شيء تصنعه لنا؟”، فقال: “بل لكم, رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم”، قال سعد بن معاذ “قد كنا نحن وهم على الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا منا إلا قري أو بيعاً, فحين أكرمنا الله بالإسلام نعطيهم أموالنا؟ ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم”. فترك ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا يوضح فهم الصحابة للشورى ومجالاتها المسموح بها, وتخصيص النبي بالمشورة لهذين الصحابيين دون غيرهما لارتباط الأمر بهما وبقومهما, فهما زعماء الأوس والخزرج.

المصدر
موقع التاريخ

اترك تعليقاً