في العام السادس من الهجرة قَبِل رسول الله معاهدة صلح الحديبية، رغم المعارضة الشديدة من بعض أصحابه، واستثمرها بنودها بنجاح، فائق ظهر أثره واضحا بعد فترة وجيزة.

فقد كان من أهم بنود صلح الحديبية وأعظمها أثرا على مستقبل الدعوة والدولة، ذلك البند الذي نص على هدنة أو فترة سلام بين الفريقين مدتها عشرة أعوام؛ ذلك أنه ما إن استقر في المدينة بعد عودته من الحديبية حتى شرع في تنفيذ خطة واسعة النطاق لتبليغ الدعوة إلى جميع مناطق شبه الجزيرة العربية وإلى الدول الأجنبية المجاورة، ففي شهر المحرم من العام السابع الهجري أرسل عليه الصلاة والسلام ستة سفراء دفعة واحدة، إلى كسرى فارس، وهرقل إمبراطور الروم، والمقوقس في مصر، ونجاشي الحبشة، وأمير غسان بالشام، وزعيم بني حنيفة في اليمامة.

اليمن أول إقليم عربي يدخل تحت سيادة الدولة الإسلامية
حمل عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه رسالة النبي عليه السلام إلى كسرى أبرويز بن هرمز، ولما أوصل إليه الرسالة، وقرئت عليه استبد به الغضب والغرور، وقال: يكتب إليَّ وهو عبدي -يقصد النبي عليه السلام ، وطرد عبد الله بن حذافة مبعوث النبي عليه السلام من المدائن، ثم أرسل كتابا إلى باذان -عامله على اليمن: أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين، فليأتياني به.

فامتثل باذان لأمر سيده، وأرسل قائدين من قواده هما خرخسرو وبابويه ومعهما عدد من الجنود، وقال لبابويه: ائت بلد هذا الرجل وكلمه وائتني بخبره فخرجا حتى قدما على رسول الله عليه السلام ، فكلمه بابويه، فقال: “إن شاهنشاه -ملك الملوك كسرى- قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك ينفعك ويكفه عنك، وإن أبيت، فهو مَن قد علمت، فهو مهلك، ومهلك قومك، ومخرب بلادك”.

فقال لهما رسول الله عليه السلام : “ارجعا حتى تأتياني غدا”، وأتى رسول الله الخبر من السماء، وأن الله سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله، فدعاهما فأخبرهما، فقالا له: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا، أفنكتب هذا عنك ونخبر الملك؟ قال: “نعم، أخبراه ذلك عني، وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى، وقولا له: إن أسلمت أعطيت ما تحت يديك وملكتك على قومك من الأبناء”.

أوصل رسولا باذان رسالة النبي عليه السلام إليه ثم جاءته الأخبار من فارس تصدق ما أخبر به النبي عليه السلام ، فلم يلبث باذان أن أراد الله به خيرا وشرح صدره للإسلام، وأرسل إلى النبي عليه السلام وفدا برئاسة فيروز الديلمي بإعلان إسلامه وإسلام الأبناء من أهل اليمن.
وأقره النبي صل عليه السلام على حكم المناطق التي كان يتولاها تحت الإدارة الفارسية، والتي يبدو أنها كانت قاصرة على منطقة صنعاء وما حولها؛ لأن النبي عليه السلام ولى ولاة آخرين على بقية مناطق اليمن التي تتابع دخولها في الإسلام، وكانت سياسة النبي عليه السلام أن يولي على كل قوم زعيما منهم.

وكيفما كان الأمر، فإن باذان كان أول ملوك العجم الذين أسلموا وولاه النبي عليه السلام الحكم باسم الإسلام، وهذا أبلغ دليل على عالمية الإسلام وسماحته وارتفاعه فوق القوميات والعصبيات فرجل أعجمي وأجنبي عن البلاد يسلم فلا مانع إطلاقا من أن يحكم تحت راية الإسلام.

ومن ولاة اليمن معاذ بن جبل ، وأبو موسى الأشعري، وعلي بن أبي طالب ، وعمرو بن حزم الأنصاري رضي الله عنهم، ومر تنظيم حكم اليمن وتقسيم مناطقه بمراحل حيث أصبح بعد حجة الوداع على النحو التالي:

• مخلاف صنعاء وعليه شهر بن باذان.
• مخلاف حضر موت وعليه زياد بن لبيد البياضي.
• مخلاف تهامة وعليه الطاهر بن أبي هالة.
• مخلاف الجند -عاصمة حمير- وعليه معاذ بن جبل رضي الله عنه، وكان له الإشراف على بقية المخاليف، وتجمع عنده الأموال ليرسلها إلى الرسول عليه السلام في المدينة.

رأينا كيف وصلت الدعوة الإسلامية إلى اليمن، وأصبحت جزآ من الدولة الإسلامية، يحكمها ولاة من قبل النبي عليه السلام لم وتوافد عليها الصحابة قضاة ومعلمين.

ولاية مكة في العهد النبوي
وفي العام الثامن الهجري وفي شهر رمضان توجه النبي عليه السلام إلى مكة ففتحها، وترك فيها أبا بكر رضي الله عنه ليدبر الأوضاع بعد الفتح ويعلم الناس.

ثم تولى ولاية مكة عتاب بن أسيد وظل واليا عليها حتى وفاة الرسول عليه السلام، وفرض الرسول صلى الله عليه وسلم لعتاب درهما واحدا في اليوم كراتب، وكان عتاب بن أسيد، يقول: “أجاع الله كبد من جاع على درهم فقد رزقني رسول الله درهما كل يوم فليست لي حاجة إلى أحد”، وهذا الراتب من أول ما وضع من الرواتب للعمال.

وهكذا أسلمت مكة -بعد مقاومتها العتيدة للإسلام- وأصبحت ولاية إسلامية، وقد عيَّن النبي صلى الله عليه وسلم سعيد بن العاص رضي الله عنه لمراقبة سوق مكة بعد الفتح.

ولاية الطائف في العهد النبوي
في شهر رمضان من العام التاسع الهجري قدوم ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عودته من تبوك، وذلك بعد ما يقرب من عام من حصار الطائف وفكه عنها، وأعلنوا إسلامهم، فلما أسلموا كتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا، وأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص، بعد أن شاور فيه أبا بكر رضي الله عنه، فقال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه: “إني قد رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن”.

ولاية البحرين في العهد النبوي
بعد فتح مكة أرسل النبي عليه السلام العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه إلى المنذر بن ساوي أمير البحرين وكتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، فأسلم ورد على رسول الله عليه السلام بكتاب، جاء فيه: “أما بعد يا رسول الله فإني قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه ودخل فيه ومنهم من كرهه، وفي أرضي مجوس ويهود فأحدث إلى في ذلك أمرك”.

فرد عليه النبي عليه السلام بكتاب، جاء فيه: “بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوي، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد: فإني أذكرك الله عز وجل فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، فإنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرا، وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية”.

بهذا الشكل دخل أهل البحرين الإسلام، وأبقى الرسول صلى الله عليه وسلم أميرهم المنذر بن ساوي يحكمهم نيابة عنه، وبقي العلاء بن الحضرمي معه قاضيا ومعلما وجامعا للصدقات.

ولاية عمان في العهد النبوي
ثم أرسل رسول الله عليه الصلاة والسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى جيفر وعبد -أو عباد- ابني الجلندي ملكي عمان ، يدعوهما للإسلام، وأرسل إليهما معه كتابا، هذا نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله إلى جيفر وعباد ابني الجلندي، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيًّا ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام، فإن ملككما زائل عنكما، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما“.

أوصل عمرو بن العاص رضي الله عنه كتاب النبي عليه السلام إليهما وبعد مناقشات طويلة استطاع إقناعهما فأسلما وأسلم قومهما بإسلامهما، وبقيا يحكمان بلدهما وبقي عمرو بن العاص رضي الله عنه ليجمع الصدقات ويحكم، ويقضي بين الناس، وقال عنهما: “وصدقا النبي عليه السلام وخليا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم وكانا عونا لي على من خالفني”.

وهكذا في فترة وجيزة بعد صلح الحديبية، انتشرت الدعوة الإسلامية، وامتد نفوذ الدولة من اليمن إلى عمان والبحرين بالإضافة إلى مكة والطائف وأصبح على كل هذه المناطق ولاة من قبل الرسول عليه السلام وإلى جانبهم قضاة ومعلمون وجباة.

وبعد عودة رسول الله عليه السلام من غزوة تبوك في رمضان من السنة التاسعة للهجرة أقبلت عليه الوفود من سائر أنحاء الجزيرة العربية معلنة إسلامها وبيعتها، وقبولها الدخول تحت سيادة الدولة، وكان الرسول عليه السلام يعين عليهم الأمراء والقضاء وجامعي الصدقات.

إن الجزيرة العربية بأسرها انتظمتها وحدة دينية وسياسية تحت زعامة النبي عليه السلام لأول مرة في تاريخها.

المصدر
موقع التاريخ

اترك تعليقاً