الوحي والنبوة

توالت آثار النبوة تلوح عليه صلى الله عليه وسلم، وكان أعظم ذلك الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى شيئاً في منامه إلا كان مثل فلق الصباح في تحققه حتى مضى على ذلك ستة أشهر، ثم نزل عليه الوحي بالقرآن الكريم وهو متحنث في غار حراء، وذلك شهر رمضان في السابع والعشرين منه – على الأرجح – وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيما روته عنه عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 1-3].

رَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي فَقَالَتْ خَدِيجَةُ كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ قَالَ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ”.

بعد هذه الواقعة استمر نزول الوحي بالقرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشر سنة، ثم بالمدينة النبوية بعد الهجرة عشر سنين، حتى اكتمل نزول القرآن، فكان هو الكتاب المتضمن لمعجزة النبي صلى الله عليه وسلم في لغته ومضمونه ومعانيه، بما حواه من أخبار وآيات في الآفاق والأنفس، وحقائق علمية معجزة بجانب كونه الكتاب المتضمن لشرائع الإسلام وأحكام به. وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم سنين بعثته الأولى وهي ثلاث عشر سنة بمكة التي أضطهده فيها أهلها وأخرجوه منها مهاجراً إلى المدينة المنورة التي أنشأ فيها دولة الإسلام وتكاملت بها تشريعات الإسلام وتوسعت دائرته إلى خارج الجزيرة العربية حتى توفاه الله تعالى في السنة العاشرة للهجرة.

روايات نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم
رواية عائشة رضي الله عنها

عائشة رضي الله عنها لم تُعاصر الحدث؛ ولكنها سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من أحد الصحابة؛ كأبيها أبي بكر رضي الله عنه أو غيره، وإن كانت هناك بعض الإشارات في الحديث إلى أنها سمعت الحديث من الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة؛ لأن هناك التفاتًا في بعض الفقرات، التي يتحدَّث فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، والحديث في أعلى درجات الصحة، وجاء في البخاري ومسلم، ومن أكثر من طريق.

رواية عبيد بن عمير بن قتادة
الرواية الثانية التي تحدَّثت في أمر الوحي بالتفصيل؛ فهي رواية عبيد بن عمير بن قتادة في سيرة ابن إسحاق، وعبيد بن عمير من كبار التابعين، وأبوه صحابي جليل، وعبيد رحمه الله يروي عن كثير من الصحابة منهم عمر وعلي وأبو ذر وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري وعائشة وابن عمر .. وغيرهم رضي الله عنهم، وهي رواية صحيحة، وفيها تفصيلات كثيرة مهمَّة.

المصدر
موقع قصة الإسلام

لماذا كانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم عند الأربعين؟

من الواضح أن سن الأربعين له أهمية خاصة في حياة الإنسان؛ حتى إن الله عز وجل ذكره على وجه التخصيص في كتابه الكريم حين قال: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15]، فهذا التمام في العقل، وهذا النضوج في الأخلاق، وهذا العمق في الرؤية، وهذه القدرة على فهم الأمور فهمًا صحيحًا، بدأت عند سن الأربعين.

ولكن يلفت الأنظار هنا أن رسولنا صلى الله عليه وسلم حتى هذه اللحظة -مع ما كان يتميَّز به من الشرف والمكانة والأخلاق الحميدة والحكمة- لم يكن يحمل دورًا قياديًّا في مكة، وكانت أمور مكة تُدار ببعض الرجال الآخرين من قبائل مختلفة، لم يكن من بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى إن الممثِّل لبني هاشم في قيادة مكة كان عمُّه أبو طالب، وهذا بالطبع لعوامل السن، وعوامل القيادة في بني هاشم ذاتها. لكن النقطة التي أُريد أن ألفت لها الأنظار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سن الأربعين سيبدأ لا أقول في قيادة مكة وحدها، أو قيادة العرب، بل سيبدأ في قيادة الدنيا بكاملها، وهنا لفتة لكل المسلمين الذين يقرءون سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه ينبغي ألا يظن أحد أنه إذا فات من عمره أربعون سنة أنه قد مضى به قطار العمر؛ فقد يكون أمامك خطوات يمكن أن تغير بها خريطة الدنيا.

فينبغي لكل من وصل إلى هذه السن أن يقف مع نفسه وقفات، وينظر ماذا فعل في المدة التي سبقت من عمره؟ وماذا هو فاعل في المرحلة المتبقية؟ مع العلم أن الفترة المتبقية قد تحمل فيها من الخير والصلاح للنفس وللمجتمع وللأرض بكاملها أضعاف أضعاف ما حملته الفترة السابقة؛ لأن الإنسان قد اكتمل عقله، وكثرت خبراته، وتعمَّقت رؤيته، وبذلك يمكن أن يُحدث أثرًا كبيرًا في الحياة الدنيا بعد هذه السن.

ووقفة كذلك مع المدَّة التي سبقت البعثة، وهي مدة أربعين سنة كاملة، وهي مدة كبيرة للغاية بالقياس إلى عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بذلك صارت مدَّة النبوة ثلاثًا وعشرين سنة فقط، وهذا يوضح لنا أهمية الإعداد، والتأنِّي في التربية؛ فقد كان من الممكن أن يُعَدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام أو في يوم؛ لكن الله عز وجل يُعَلِّمنا كيف تكون السنن، وكيف يكون إعداد الدعاة للقيام بالمهامِّ الكبرى، فكانت هذه الفترة المهمَّة في حياة رسولنا صلى الله عليه وسلم.

والحق أن هذه الفترة تحتاج إلى دراسة خاصة، وأتمنى أن أُفْرِد لها كتابًا منفردًا بإذن الله تعالى، يتناول حياته صلى الله عليه وسلم منذ وُلد إلى أن وصل إلى لحظة الوحي، وأنا على يقين أننا سنُخرج منها كنوزًا شتى، وعِبَرًا لا تحصى، في كيفية إعداد الدعاة وتربيتهم، حتى يصلوا إلى المستوى الذي يمكن أن يحملوا فيه أمانة تبليغ هذا الدين.

المصدر
موقع قصة الإسلام

الرؤيا الصادقة علامة أول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم

واقع الأمر أنه ليس هناك تعارض بين الروايات التي تناولت نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن السبب وراء هذا التباين هو أن الروايات في الواقع تتحدث عن أحداث مختلفة متعاقبة في الزمن، وليست عن حدث واحد، ولنُعِدْ كتابة القصة الآن مرتَّبة ترتيبًا زمنيًّا اعتمادًا على هذه الروايات الصحيحة، لنصل إلى ما حدث بالفعل، ونفهم العلاقة بين الروايتين، وعن أي شيء تتحدَّث عائشة رضي الله عنها أو عبيد بن عمير رحمه الله.

الرؤيا الصادقة
هي التي جاءت في رواية عائشة رضي الله عنها عندما بدأت الكلام بقولها:”أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ”، وفي رواية أخرى من روايات عائشة رضي الله عنها وصفت الرؤيا بالصَّادِقَة.
إذن في هذا التعبير تُوَضِّح عائشة رضي الله عنها أن بداية الوحي كانت عبارة عن الرؤيا يراها رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه؛ فتأتي كفلق الصبح؛ أي تأتي واضحة بيِّنة، ليس فيها اختلاف البتَّة عمَّا رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه فترة عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يلتقي جبريل عليه السلام في غار حراء، ومدة هذه الفترة يختلف عليها العلماء؛ وهي في الأغلب ستة أشهر، وليس هناك دليل مباشر على هذا التقدير، لكنها حسابات بُنِيَتْ على أحاديث أخرى.
تقول عائشة رضي الله عنها: “أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم”، وهي تعني في هذه الكلمة الإرهاصات “المباشرة” للوحي؛ لأنه كانت هناك إرهاصات أخرى في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم تُنْبِئ أن حياته ليست كحياة بقية الناس، وأن أمره فيه كثير من الغرابة غير المعتادة مع بقية البشر، وكانت هذه إرهاصات تدل على أنه سيكون في مستقبله ذا شأن.
من هذه الإرهاصات على سبيل المثال حادثة شق الصدر، وهي ثابتة بالروايات الصحيحة، وحَدَثَ وهو طفل صغير عندما كان عند مرضعته حليمة، ومنها كذلك سلام الحجر عليه، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: “إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ”. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها: “إِنِّي أَرَى ضَوْءًا، وَأَسْمَعُ صَوْتًا، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ بِي جَنَنٌ”. قَالَتْ: لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ يَا ابْنَ عَبْدِ اللهِ. ثُمَّ أَتَتْ ورقة بن نوفل، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِنْ يَكُ صَادِقًا، فَإِنَّ هَذَا نَامُوسٌ مِثْلُ نَامُوسِ مُوسَى، فَإِنْ بُعِثَ وَأَنَا حَيُّ، فَسَأُعَزِّرُهُ، وَأَنْصُرُهُ، وَأُومِنُ بِهِ.
هذه كلها علامات تُشير إلى أن هذا الرجل سوف يلقى في مستقبله أمورًا غريبة ليست معتادة بين البشر؛ لكن ما عنته عائشة رضي الله عنها بقولها: “أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الوَحْيِ”، كان المقصود منها الدخول في عملية الوحي المباشِرة، وكون هذه الرؤيا الصالحة ملاصقةً تمامًا لبدايات نزول جبريل عليه السلام، فاعتُبرت من داخل الوحي.

العلاقة بين الرؤيا الصادقة والوحي
هناك علاقة مباشرة بين الرؤيا الصادقة والوحي؛ فكلاهما يُنبئ بالمستقبل، ويُخبر بالغيب؛ ولهذا اعتُبِرت الرؤيا الصادقة أو الصالحة في هذه الرواية من الوحي ذاته؛ بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبَّر عن الرؤيا بأنها جزء من النبوة، وهو هنا يقصد الرؤيا العامة وليست رؤيا الأنبياء فقط؛ فقال على سبيل المثال في الحديث: “أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ”، وقال كذلك: “الرُّؤْيَا الحَسَنَةُ، مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ”.

مدة الرؤيا الصالحة
هذا الذي دعا العلماء لتحديد مدَّة الرؤيا الصادقة التي مرَّ بها رسولنا صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، فهو يقول: إن هذه الرؤيا هي جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، ومدة البعثة النبوية كانت ثلاثًا وعشرين سنة؛ فجزء من ستة وأربعين جزءًا من هذه الفترة يساوي ستة أشهر، وهذا يعني أن بدايات الرؤيا الصالحة لرسولنا صلى الله عليه وسلم كانت في شهر ربيع الأول، قبل أن يلتقي جبريل برسولنا صلى الله عليه وسلم في رمضان من السنة نفسها.

الفرق بين رؤيا الرسول ورؤيانا
ينبغي التنبيه على أن رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم مختلفة عن رؤيانا في أمرين مهمَّين؛ وهما: الأمر الأول، هو أن “كلَّ” رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم صحيحة، وليس فيها ما نسميه: “أضغاث الأحلام”، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه: “رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ”.
أما الأمر الثاني، فرؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم كلها واضحة المقصد، أو كما عبَّرت عائشة رضي الله عنها بقولها: “مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ” فليس هناك اختلاف في تفسيرها، فهي إما وصفت حدثًا معينًا سيحدث بحذافيره، وإما ذكر لها رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويلاً معينًا قطعيًّا لا يُحْتَمل غيره، بينما رؤيانا تحتاج إلى تفسير من عالِمٍ بأمور وتفسير الرؤى، وقد يكون تفسيرُه مصيبًا في بعض الأحوال، وقد يجانبه الصواب في أحيان أخرى.

هذه الرؤيا الصادقة التي مرَّ بها رسولنا صلى الله عليه وسلم كانت تمهيدًا له، وكذلك كانت تمهيدًا لمن حوله من الناس؛ خاصة أولئك الذين أحبُّوه، ووثق فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى حكى لهم هذه الرؤى، وعلى رأسهم بلا شك خديجة رضي الله عنها، وقد يكون حكى ذلك الأمر أيضًا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، أو زيد بن حارثة رضي الله عنه، أو غيرهما من أصحابه في ذلك الوقت.

المصدر
موقع قصة الإسلام

أربعون عاما قبل النبوة

طفولته صلى الله عليه وسلم

سيرة خير البرية معين لا ينضب، قضى فيها محمد صلى الله عليه وسلم أربعين عامًا تجلت فيها الصفات الحميدة، لتكون بداية التغيير للعالم السفلي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور التوحيد والعلم.
فبعد أن انتقل مع مرضعته حليمة السعدية لترضعه في مضارب بني سعد بن بكر، على عادة العرب في التماس المراضع لأولادهم، لتقوى أجسامهم، ويتقنوا اللسان العربي من صغرهم، نشأ محمد الصغير صلى الله عليه وسلم، وبها وقف ومشى على قدميه، وبها ضحك ولعب مع أقرانه الصغار.
في تلك المضارب رعى خيرة الخلق الغنم، وسار خلفها وقادها مع إخوانه من الرضاع. وتمر الأيام على رعاة الغنم الصغار، ويبلغ الصغير أربع سنين، وبينما هو يلعب مع الغلمان، إذ به يصرع ويضجع من رجلين عليهما ثياب بيض، لينطلق المنادي إلى أمه بنداء الرعب والخوف، “لقد قُتل محمد”.
وكان ذلك القتل هو حادثة شق الصدر، لقد أضجعه الرجلان، ثم أخرجا منه علقة سوداء فألقياها، فانتهت حظوظ الشيطان منه، ثم غسلا قلبه في طست من ذهب بماء زمزم، ثم أعادا قلبه إلى مكانه، فجاء الصغير إلى القوم وهو منتقع اللون.
يقول أنس رضي الله عنه: “وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره”، فلما رأت حليمة ذلك: خافت على الصغير من أن يصيبه شيء، فاتخذت قرارًا برده إلى أمه الحنون، وكان عندها حتى بلغ الست سنوات، لتتحرك عاطفة آمنة وشوقها إلى حيث توفي الزوج ويقطن الأهل، فعزمت على السفر إلى يثرب.
تحركت المطايا، ومكثت شهرًا في يثرب، ليحين بعد ذلك وقت الرجوع، وفي طريق السفر بين يثرب ومكة توقفت المطايا في مكان يحمل في طياته ذكرى لا تزال عالقة بذاكرة الحبيب حتى بعد النبوة، فمرّ يومًا على قبر فانتهى إليه وجلس، وجلس الناس حوله، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب، كما يروي ذلك بريدة رضي الله عنه، ثم بكى بكاء لم يبكه من قبل، فاستقبله عمر فقال: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: “هذا قبر آمنة بنت وهب”.
انتقل محمد الطفل صلى الله عليه وسلم إلى جده عبد المطلب، الذي رق له رقة شديدة، فكان لا يدعه وحيدًا، بل جعله مقدمًا على أولاده وبنيه. وكان لعبد المطلب فراشًا لا يجلس عليه غيره إجلالاً له واحترامًا، فكان محمد الصغير صلى الله عليه وسلم هو الوحيد المصرح له بالجلوس، فيأتي الأولاد والأبناء ليُبعدوه، فيقول الجد: “دعوه، والله إن لهذا شأنًا”
وتمر الأيام ويبلغ الصغير ثماني سنوات، ليكون على موعد جديد مع الآلام، فها هو عبد المطلب يوارى الثرى، لتكون وصيته الأخيرة، أن يكون الصغير عند عمه أبو طالب الذي نهض باليتيم على أكمل وجه، وضمّه إلى بنيه وقدمه عليهم، واختصه بمزيد احترام وتقدير.
وتمر الأيام ويأتي على قريش سنوات عجاف، أجدبت لها الأرض، وكاد يهلك بها القوم، فبات الناس في شظف من العيش، فما كان من قريش إلا أن طلبوا من سيدهم أبا طالب أن يستسقي لهم، فقد كان أبيض يُستسقى الغمام بوجهه.
خرج أبو طالب يستسقي، والسماء ما فيها من قزعة ومعه الغلام الصغير صلى الله عليه وسلم وبنيه، فأخذ أبو طالب الغلام اليتيم الصغير وهو يتذكر كلمات عبد المطلب “والله إن لهذا شأنًا” فألصق ظهره بالكعبة واستسقى، فأقبل السحاب من كل جانب، وانفجرت السماء بماء منهمر، فقال أبو طالب:
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ثِمالُ اليتامى عصمة للأرامل.

شبابه صلى الله عليه وسلم

وتمر الأيام ويبلغ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة، وفي صيف حار تحركت ركائب قريش نحو الشام، فلما وصلوا إلى بُصرى نزل القوم للراحة، فخرج إليهم بحيرا الراهب ولم تكن من عادته الخروج إليهم، فتخللهم حتى جاء إلى الفتى الصغير صلى الله عليه وسلم.
أخذ بحيرا الراهب بيده وقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال أبو طالب وأشياخ قريش: وما علمك بذلك؟ فقال: “إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خرّ ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنّا نجده في كتبنا”، ثم طلب إليهم ألا يذهبوا به إلى الشام خوفًا عليه من الروم واليهود، فرده أبو طالب بغلمان معه إلى مكة.
وتمر الأيام وقد شبّ النبي الكريم، ولم يكن له عمل معين في أول شبابه، لكن جاءت الروايات وتوالت بأن مهنته كانت رعي الغنم.
لقد كان يسير طوال نهاره خلف الغنم، فرعاها في بني سعد ابتداءً، ثم في مكة على قراريط لأهلها، ومهنة كهذه يُشترط لها الأمانة مع طول النفس، وفيها ما فيها من قسوة ومتابعة، إلا أنها تُثمر قلبا عطوفًا رقيقًا، وواقع حال رعاة الغنم خير شاهد على ذلك.
وبعيدًا عن العمل وهمومه، وبعيدًا عن كدح البحث عن لقمة العيش نقف مع نوازع نفس محمد صلى الله عليه وسلم، ويحدثنا النبي الكريم عن نفسه في تلك الفترة فيقول: “ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء، إلا ليلتين، كلتاهما عصمني الله تعالى منهما. قلت ليلة لبعض فتيان مكة، ونحن في رعاية غنم أهلنا، فقلت لصاحبي: أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر فيها كما يسمر الفتيان. فقال: بلى. فدخلت حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفًا بالغرابيل والمزامير. فقلت: ما هذا؟ فقيل: تزوج فلان فلانة. فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس. فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما فعلت شيئًا، ثم أخبرته بالذي رأيت. ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة. ففعل، فدخلت، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فسألت، فقيل: فلان نكح فلانة، فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ قلت: لا شيء، ثم أخبرته بالخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدها لشيء، حتى أكرمني الله بنبوته”.
إنها الرعاية الربانية، تقف للحيلولة بينه وبين تلك النوازع، ولذلك جاء في الأثر: “أدبني ربي فأحسن تأديبي”، وتمر الأيام ليبلغ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم العشرون عاما، ليشهد حربًا وقعت في شهر حرام، تُسمى بحرب الفِجَار التي وقعت في سوق عكاظ بين قريش ومعهم كنانة وبين قيس عيلان، فاصطف القوم ووقعت حرب ضروس، وكان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يجهز النبل للرمي، وكثُر القتل في الطرفين، حتى رأى عقلاء القوم أن وضع أوزار الحرب والاصطلاح خير من الملحمة، فهدموا ما بينهم من العداوة والشر، وعلى أثر ذلك حصل حلف الفضول.
تداعت إلى الحلف قبائل من قريش في ذي القعدة، وكان اجتماعهم في دار عبد الله بن جدعان التيمي، فتعاهدوا وتعاقدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وشهد هذا الحلف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وقال عنه بعد أن أكرمه الله بالنبوة: “لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت”
وتمضي الأيام ويبلغ النبي الكريم الخامسة والعشرين من عمره، ليخرج إلى تجارة الشام في مال لخديجة بنت خويلد، بعد أن سمعت بأخبار الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، وجعلت معه غلام لها يُقال له: ميسرة.
ذهب النبي الكريم إلى الشام، فما لبث أن رجع إلى مكة، فرأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم تره من قبل، وحدّثها ميسرة بما رآه من حال الصادق الأمين، فما كان منها إلا أن سعت ليكون الخبر في أرجاء مكة.
عزمت خديجة رضي الله عنها على نية أفصحتها لصديقتها نفيسة بنت منبه، التي قامت بدورها بذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. فرضي بذلك، إلا أن والد خديجة حاول عبثًا الوقوف أمام هذا الزواج، فصنعت طعامًا وشرابًا دعت إليه أبوها وزمرًا من قريش، فطعموا وشربوا حتى ثملوا. فقالت خديجة لأبيها: إن محمدًا بن عبد الله يخطبني فزوجني إياه. فزوجها إياه.
تزوج الشريف الشريفة، وتمر الأيام والأعوام على ذلك البيت الهادئ الجميل، ويُرزق منها بالبنين، والنبي الكريم يُقري الضيف، ويعين الملهوف، وينصر المظلوم، ويكون في حاجة أهله، ويجرف مكة سيل عرم وينحدر إلى البيت فيُصدّع جدرانه حتى أوشك على الوقوع والانهيار، فاتفقت قبائل قريش على إعادة بناء الكعبة.
تبني قريش الكعبة بشرط مسبوق: “ألا يدخل في بنائها إلا طيبًا، فلا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة لأحد من الناس”، ويشارك النبي الكريم صلى الله عليه وسلم صاحب الخمسة وثلاثين عامًا في البناء، ويحمل الحجارة من الوادي مشاركًا قومه في مثل هذا الحدث العظيم.
يرتفع البناء ويعود للبيت جلاله وهيبته، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود حصل الاختلاف، وتنازع القوم في شرف وضع الحجر الأسود أربع ليال أو خمس حتى كادت الحال أن تتحول إلى حرب ضروس، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد.
ارتضى القوم بذلك، فإذا بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب يكون ذلك الداخل. فهتف القوم: أن رضينا بالأمين. طلب عليه الصلاة والسلام رداءً فوضع الحجر وسطه، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعا بأطراف ذلك الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه.
وتمر الأيام وغربة النبي الكريم تزداد يومًا بعد يوم، فوجوه يعرفها، وأحوال ينكرها، كان ذا صمت طويل يزدان بالتأمل والنظر، لقد كانت تلك الفطرة التي جُبَل عليها تمنعه من أن ينحني لصنم، أو يهاب وثنًا، فاعتزل القوم لما رأى من سفاهة أحلامهم، وتفاهة عقولهم، فكان عليه الصلاة والسلام لا يحضر عيدًا لوثن، ولا يشهد احتفالاً عند صنم، ولا يحلف باللاّت، ولا يتقرب لعزى، ولا يشرب خمرًا، ولا يأكل مذبوحًا على نُصب، فأبغض ذلك كله. يقول زيد بن حارثة، مولي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: “فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنمًا حتى أكرمه الله بالذي أكرمه وأنزل عليه”، فقد كان عليه الصلاة والسلام موحدًا على ملة إبراهيم الخليل عليه السلام.
لقد جمع الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم من الأوصاف والشمائل ما جعلت محبته لا تقف عند البشر، بل تتعداه إلى الحجر والشجر، ويقول عليه الصلاة والسلام بعد أن أكرمه الله بالرسالة: “إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث”.
وتمر الأيام حتى بدأ طور جديد من حياته صلى الله عليه وسلم، فكان يرى الرؤية ثم لا يلبث حتى يراها واقعًا مشهودًا أمامه، فكان ذلك بداية بشرى النبوة والرسالة والاصطفاء، لتكون البداية الحقيقية في الغار بآية {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1].

وينادي المنادي في أصقاع المعمورة: إن محمدًا قد بُعث، وإذا بعقارب السنين والأعوام قد دقت الأربعين، فصلوات ربي وسلامه عليه، تلك الأربعون من عمره كانت تتصف بالعراقة، فكيف بما بعد الأربعين، حين بُعث إلى العالمين.

المصدر:
موقع قصة الإسلام