ملامح المجتمع المدني في حكومة الرسول صلى الله عليه وسلم

أول خطوة بدأ بها الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام هي لمّ شتات قبائل العرب وتلوناتها في إطار وحدة اجتماعية متماسكة، “فالمسلم أخو المسلم” وعملية المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين في المدينة المنورة تعد عملية مثالية لم يعرف لها التاريخ صنواً، فكيف لأعرابي يرى كل من لا ينتمي لقبيلته أجنبياً، أن يتخذ له أخاً من قبيلة أخرى بعيدة، بل إن بعض الأنصار طلق بعض زوجاته، لتزويجها من أحد المهاجرين القادمين من صحراء مكة، وهنا كان للمؤسسة الاجتماعية التي شيدها الرسول عليه الصلاة والسلام الدور الأول في إرساء قواعد هذا التشكيل المجتمعي الجديد فكان المسجد الجامع أول مؤسسة (قانونية) شرعية تمثل رمز الدولة الإسلامية الحديثة بموازاة المؤسسة غير الشرعية التي أراد تأسيسها آخرون، كما هو المشهور في حادثة (مسجد الضرار).

بينما كان الحث على حضور المسجد الجامع أمراً واجباً، وبدأ الشكل المؤسساتي يتبلور داخل هذه المؤسسة الصغيرة، وتتبين معالم الدولة المدنية من تعليمات هذه المؤسسة التي جمعت بين القداسة في المفهوم الديني والشعبية في العرف الاجتماعي، حتى أن التجمعات (الحزبية) بدأت من أروقة هذا المسجد في دلالة واضحة على مدنية الدولة وتحضرها، خصوصاً وأنها نبعت من مجتمع أبعد ما يكون عن الأشكال الحضارية.

كما كان لشخصية الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام وجو الحرية الذي أشاعه بين أفراد هذا المجتمع الجديد الدور الأول في تسريع عملية الإنماء الاجتماعي الحضري للدولة الإسلامية، فيأتي الأعرابي من أقاصي الجزيرة ويمسك بالنبي (قائد الدولة) ويقول (أعدل يا محمد) وحينما يحاول بعض الصحابة معاقبته على هذا الفعل، يرفض الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ذلك ويجزل العطاء لهذا الأعرابي.

هكذا كانت البداية، فعظم المسؤولية يكون في الجسر الموصل إلى رعاية المجتمع وتلبية مطالبه الأساسية. وقد تظافرت عدة جهود في إنماء المجتمع المدني في المدينة المنورة، أهمها شخصية قائد الدولة، ثم الفطرة البدوية التي تختزن العوامل الأخلاقية في أفراد الجزيرة وبالذات سكنة المدينة المنورة والتي تعد أحد أسباب اختيار النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام لها كمركز لإقامة دولته.

وظل الهدف الأسمى لهذه الدولة هو الإنسان في حريته وضمان أمنه الاقتصادي والاجتماعي، واتضح مظهر التفاعل الاجتماعي مع السلطة الدينية بحيث اتخذ أشكالاً مثالية؛ فالطاعة الجماهيرية المنقطعة النظير جاءت كنتيجة لعدالة هذه الدولة ورغبتها في خدمة المجتمع ولم يكن القائد أو من يعينه هو المسؤول الوحيد في الدولة والمجتمع بل إن الفرد أي فرد هو مسؤول بنص الحديث الشريف: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”.

والغاية الأخلاقية للدولة لم تكن مستمدة من قانون ارتآه النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام – شخصياً – بل هو تعليم سماوي في قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى} [النجم: 3]، وقوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إنّ الله عزيزٌ حكيمٌ} [التوبة: 71].

المصدر
موقع التاريخ

الهجرة النبوية دروس وعبر الجزء الثاني

لقد كانت الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة انطلاقة جديدة لبناء دولة الإسلام، وإعزازاً لدين الله تعالى، وفاتحة خير ونصر وبركة على الإسلام والمسلمين. لذا فإن دروس الهجرة الشريفة لا تنتهي ولا ينقطع مداها، ومنها:

دور المرأة المسلمة في الهجرة الشريفة
دور المرأة المؤمنة في تحمل أعباء الدعوة كبير وعظيم، فقد كانت خديجة رضي الله عنها الملجأ الدافئ الذي يخفف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحينما نزل عليه الوحي في غار حراء وجاءها يرتجف ويقول زملوني زملوني, ولما ذهب عنه الرَّوْع. قال لخديجة: “قد خشيت علي؟”. فقالت له: كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
ويتجلى دور المرأة المسلمة في الهجرة الشريفة من خلال الدور الذي قامت به عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما حيث كانتا نعم الناصر والمعين في أمر الهجرة؛ فلم يخذلا أباهما أبا بكر مع علمهما بخطر المغامرة، ولم يفشيا سرّ الرحلة لأحد، ولم يتوانيا في تجهيز الراحلة تجهيزاً كاملاً، إلى غير ذلك مما قامتا به.
وهناك نساء أخريات كان لهن دور بارز في التمهيد لهذه الهجرة المباركة, منهن: نسيبة بنت كعب المازنية، وأم منيع أسماء بنت عمرو السلمية.

الصداقة الحقيقية مبادئ ومواقف
كان من فضل الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن جعل أفئدة من الناس تهوي إليه، وترى فيه المصحوب المربي والمعلم، والصديق؛ مما جعل سادة قريش يسارعون إلى كلماته ودينه مثل أبو بكر، وطلحة، والزبير، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، متخلين بهذه المسارعة المؤمنة عن كل ما كان يحيطهم به قومهم من مجد وجاه، متقبلين في نفس الوقت حياة تمور مورًا شديدًا بالأعباء والصعاب والصراع.
ولقد توفرت في أبي بكر خصال عظيمة جعلته خير ناقل لأثر الصحبة، كان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر فحسن مجالسته هذا كان سببا في إسلام السابقين فجاء بهم إلى المصحوب الأعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا وصلوا. فالصحبة الصالحة لها أثرها البالغ في ثبوت الإيمان في القلوب.
وحينما عاد أبو بكر من رحلة التجارة وأبلغه القوم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم يزعم أنه يوحى إليه فأجابهم إن قال فقد صدق فما أن حط عنه عناء السفر، حتى أقبل إلى النبي عليه الصلاة والسلام متأكدا من ذلك، فما أن سمع من النبي صلى الله عليه وسلم حتى فاضت عيناه وقبل صاحبه الذي ما تردد في النطق بأعظم كلمة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
وحينما أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة، اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون رفيقه في هجرته، وظلا ثلاثة أيام في غار ثور، وحينما وقف المشركون أمام الغار، حزن أبو بكر وخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلي قدميه، لأبصرنا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما”
وهذا الحب هو الذي أبكى أبا بكر فرحاً بصحبته صلى الله عليه وسلم.إن هذا الحب هو الذي أرخص عند أبي بكر كل ماله ليؤثر به الحبيب صلى الله عليه وسلم على أهله ونفسه. عن أنس رضي الله عنه قال رسول صلى اللّه عليه وسلم لحسان بن ثابت: “هل قلت في أبي بكر شيئاً؟”، فقال: نعم. فقال: “قل وأنا أسمع”. فقال:

وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ***** طاف العدوّ به إذ صعَّد الجبلا
و كـان حِـبِّ رسـول اللّه قـد عـلـمـوا ***** من البرية لم يعدل به رجلاً

فضحك رسول اللّه حتى بدت نواجذه، ثم قال: “صدقت يا حسان هو كما قلت”. فقد كان الصديق رضي الله عنه مثلًا رائعًا في أن الصداقة مبادئ ومواقف، وليست شعارات وأقوال.

لقد كانت الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة انطلاقة جديدة لبناء دولة الإسلام، وإعزازاً لدين الله تعالى، وفاتحة خير ونصر وبركة على الإسلام والمسلمين.

المصدر
موقع التاريخ

الهجرة النبوية دروس وعبر – الجزء الأول

لقد كانت الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة انطلاقة جديدة لبناء دولة الإسلام، وإعزازاً لدين الله تعالى، وفاتحة خير ونصر وبركة على الإسلام والمسلمين. لذا فإن دروس الهجرة الشريفة لا تنتهي ولا ينقطع مداها، ومنها:

المؤمن يحسن التوكل على الله تعالى
وحسن التوكل على الله تعالى، يعني صدق اعتماد القلب على الله في دفع المضار وجلب المنافع، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي إلا الله ولا يمنع إلا الله ولا يضر ولا ينفع سواه, قال تعالى : {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [سورة الطلاق: 2], وقال صلى الله عليه وسلم: “لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا”.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم في رحلة الهجرة الشريفة متوكلاً على ربه واثقاً بنصره يعلم أن الله كافيه وحسبه، ومع هذا كله لم يكن صلى الله عليه وسلم بالمتهاون المتواكل الذي يأتي الأمور على غير وجهها. بل إنه أعد خطة محكمة ثم قام بتنفيذها بكل سرية وإتقان.
فالقائد: محمد، والمساعد: أبو بكر، والفدائي: علي، والتموين: أسماء، والاستخبارات: عبد الله، والتغطية وتعمية العدو: عامر، ودليل الرحلة: عبد الله بن أريقط، والمكان المؤقت: غار ثور، وموعد الانطلاق: بعد ثلاثة أيام، وخط السير: الطريق الساحلي. وهذا كله شاهد على عبقريته وحكمته صلى الله عليه وسلم، وفيه دعوة للأمة إلى أن تحذو حذوه في حسن التخطيط والتدبير وإتقان العمل واتخاذ أفضل الأسباب مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب أولاً وأخراً.

الصبر واليقين طريق النصر والتمكين
بعد سنوات من الاضطهاد والابتلاء قضاها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة يهيئ الله تعالى لهم طيبة الطيبة، ويقذف الإيمان في قلوب الأنصار، ليبدأ مسلسل النصر والتمكين لأهل الصبر واليقين, قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)} [سورة غافر]. وإن طريق الدعوة إلى الله شاق محفوف بالمكاره والأذى. لكن من صبر ظفر ومن ثبت انتصر.
ولقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أذى قريش وكان النبي صل الله عليه وسلم يطمأنهم بأن النصر قادم, فحينما جاءه خباب بن الأرت يشكو ظلم قريش, قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو لَنَا، فَقَالَ: “قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ، لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ”.
وفي الهجرة المباركة لما خاف الصديق على رسول الله من أذي قريش, وقال لرسول الله: “لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَنْظُرُ إِلَى قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ” رفض الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الرسالة السلبية وقال له في ثبات المؤمن ويقينه بربه: “يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا”. فأنزل الله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة 40].

الله تعالى يؤيد رسله بالمعجزات
الله تعالى قد يبتلي أولياءه وأحبابه من أصحاب الرسالات والدعوات بالمحن والشدائد, ولكن لا يتركهم لتلك المحن والشدائد حتى تعصرهم, بل يمحصهم, ويرفع من قدرهم, ثم يؤيدهم سبحانه بالمعجزات التي تثبت صدق دعواهم, قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [سورة الحج 38]. وفي رحلة الهجرة الشريفة تجلت معجزات وآيات وبراهين تؤكد صدق دعوى النبي صلى الله عليه وسلم, فهل رأيتم رجلاً أعزلاً محاصراً يخرج إلى حيث المجرمين ويخترق صفوفهم فلا يرونه ويذر التراب على رؤوسهم ويمضي؟!، وهل رأيتم عنكبوتاً تنسج خيوطها على باب الغار في ساعات معدودة؟!
وهل رأيتم فريقاً من المجرمين يصعدون الجبل ويقفون على الباب فلا يطأطيء أحدهم رأسه لينظر في الغار؟!، هل رأيتم فرس سراقة تمشي في أرض صلبه فتسيخ قدماها في الأرض وكأنما هي تسير في الطين؟!، هل رأيتم شاة أم معبد الهزيلة يتفجر ضرعها باللبن؟!

قال البوصيري

ومــا حـوى الغـــارُ مِن خيـرٍ ومِن كَرَمِ ***** وكُــلُّ طَرْفٍ مِنَ الكفارِ عنه عَمِي
فـالصدقُ في الغــارِ والصدِّيقُ لم يَرِمَا ***** وهُم يقولون مـا بالغــارِ مِن أَرِمِ
ظنُّوا الحمامَةَ وظنُّوا العنكبوتَ على ***** خــيرِ البَرِّيَّـةِ لم تَنسُـجْ ولم تَحُمِ
وِقَــــايَـةُ اللهِ أغـنَـتْ عَـن مُـضَـــاعَـفَـةٍ ***** مِنَ الدُّرُوعِ وعن عــالٍ مِنَ الأُطُمِ

إن هذه المعجزات لهي من أعظم دلائل قدرة الله تعالى، وإذا أراد الله نصر المؤمنين خرق القوانين، وقلب الموازين.
المصدر
موقع التاريخ