التعريف بخاتم الأنبياء محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم – الجزء الثالث

رحمته صلى الله عليه وسلم بقومه
لما اشتد الأذى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي طالب وخديجة رضي الله عنها، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فدعا قبائل ثقيف إلى الإسلام، فلم يجد منهم إلا العناد والسخرية والأذى، ورموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه، فقرر صلى الله عليه وسلم الرجوع إلى مكة. فلما وصل قرن الثعالب، رفع رأسه فإذا سحابة فيها جبريل عليه السلام، فناداه فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد أرسل لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم ناداه ملك الجبال، قائلاً: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال صلى الله عليه وسلم: “بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً”.
وكان صلى الله عليه وسلم يخرج كل موسم، فيعرض نفسه على القبائل ويقول: من يؤويني؟ من ينصرني؟ فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي!”.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عند العقبة في الموسم ستة نفر فدعاهم فأسلموا، ثم رجعوا إلى المدينة فدعوا قومهم، حتى فشا الإسلام فيهم، ثم كانت بيعة العقبة الأولى والثانية، وكانت سراً، فلما تمت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا.

هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر إلى المدينة فتوجه إلى غار ثور، فأقاما فيه ثلاثاً، وعني أمرهم على قريش، ثم دخل المدينة فتلقاه أهلها بالرحب والسعة، فبنى فيها مسجده ومنزله.

غزواته صلى الله عليه وسلم
يقول ابن عباس رضي الله عنه: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، لَيهَلِكُنَّ، فأنزل الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39]. وهي أول آية نزلت في القتال. وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعاً وعشرين غزاة، قاتل منها في تسع: بدر، وأحد، والريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف، وبعثَ ستاً وخمسين سرية.

حج النبي صلى الله عليه وسلم واعتماره
لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن هاجر إلى المدينة إلا حجة واحدة، وهي حجة الوداع. فالأولى عمرة الحديبية التي صدّه المشركون عنها. والثانية عمرة القضاء، والثالثة عمرة الجعرانة، والرابعة عمرته مع حجته.

أخلاقه صلى الله عليه وسلم
كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأصدقهم لهجة، وألينهم طبعاً، وأكرمهم عشرة، قال تعالى: {وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظيمٍ} [القلم:4].
وكان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأعف الناس وأكثرهم تواضعاً، وكان صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، يقبل الهدية ويكافئ عليها، ولا يقبل الصدقة ولا يأكلها، ولا يغضب لنفسه، وإنما يغضب لربه، وكان صلى الله عليه وسلم يأكل ما وجد، ولا يدُّ ما حضر، ولا يتكلف ما لم يحضره، وكان لا يأكل متكئاً ولا على خوان، وكان يمر به الهلال ثم الهلال ثم الهلال، وما يوقد في أبياته صلى الله عليه وسلم نار، وكان صلى الله عليه وسلم يجالس الفقراء والمساكين ويعود المرضى ويمشي في الجنائز.
وكان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً، ويضحك من غير قهقهة، وكان صلى الله عليه وسلم في مهنة أهله، وما زال صلى الله عليه وسلم يلطف بالخلق ويريهم المعجزات، فانشق له القمر، ونبع الماء من بين أصابعه، وحنَّ إليه الجذع، وشكا إليه الجمل، وأخبر بالغيوب فكانت كما قال.

المصدر
موقع قصة الإسلام

التعريف بخاتم الأنبياء محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم – الجزء الثاني

أولاده صلى الله عليه وسلم
كل أولاده صلى الله عليه وسلم من ذكر وأنثى من خديجة بنت خويلد، إلا إبراهيم، فإنه من مارية القبطية التي أهداها له المقوقس.

الذكور من ولده
القاسم وبه كان يُكنى، وعاش أياماً يسيرة، والطاهر والطيب.
وقيل: ولدت له عبدالله في الإسلام فلقب بالطاهر والطيب. أما إبراهيم فولد بالمدينة وعاش عامين غير شهرين ومات قبله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر.

بناته صلى الله عليه وسلم
زينب وهي أكبر بناته، وتزوجها أبو العاص بن الربيع وهو ابن خالتها، ورقية تزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه، وفاطمة تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأنجبت له الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأم كلثوم تزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه بعد وفاة رقية رضي الله عنهن جميعاً.

مبعثه صلى الله عليه وسلم
بعث صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فنزل عليه الملك بحراء يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وكان إذا نزل عليه الوحي اشتد ذلك عليه وتغيّر وجهه وعرق جبينه.
فلما نزل عليه الملك قال له: اقرأ، قال: لست بقارئ، فغطاه الملك حتى بلغ منه الجهد، ثم قال له: اقرأ، فقال: لست بقارئ ثلاثاً. ثم قال: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذي خَلَقَ، خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ ورَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5]. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة رضي الله عنها يرتجف، فأخبرها بما حدث له، فثبتته وقالت: أبشر، وكلا والله لا يخزيك أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحملُّ الكَلَّ، وتعين على نوائب الدهر.
ثم فتر الوحي، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يمكث لا يرى شيئاً، فاغتم لذلك واشتاق إلى نزول الوحي، ثم تبدى له الملك بين السماء والأرض على كرسيّ، وثبته، وبشره بأنه رسول الله حقاً، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف منه وذهب إلى خديجة وقال: زملوني. دثروني، فأنزل الله عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّر، وَثِيَابَكَ فَطَهِّر} [المدثر:1-4].
فأمر الله تعالى في هذه الآيات أن ينذر قومه، ويدعوهم إلى الله، فشمَّر صلى الله عليه وسلم عن ساق التكليف، وقام في طاعة الله أتم قيام، يدعو إلى الله تعالى الكبير والصغير، والحر والعبد، والرجال والنساء، والأسود والأحمر، فاستجاب له عباد الله من كل قبيلة ممن أراد الله تعالى فوزهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، فدخلوا في الإسلام على نور وبصيرة، فأخذهم سفهاء مكة بالأذى والعقوبة، وصان الله رسوله وحماه بعمه أبي طالب، فقد كان شريفاً مطاعاً فيهم، نبيلاً بينهم، لا يتجاسرون على مفاجأته بشيء في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يعلمون من محبته له.
وبقي ثلاث سنين يتستر بالنبوة، ثم نزل عليه: {فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر} [الحجر:94]. فأعلن الدعاء. فلما نزل قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف (يا صباحاه!) فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد! فاجتمعوا إليه فقال: “أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي”؟ قالوا ما جربنا عليك كذباً. قال: “فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد”. فقال أبو لهب: تباً لك، أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام، فنزل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ وَتَبْ} إلى آخر السورة، [متفق عليه].

صبره صلى الله عليه وسلم على الأذى
لقي صلى الله عليه وسلم الشدائد من قومه وهو صابر محتسب، وأمر أصحابه أن يخرجوا إلى أرض الحبشة فرارًا من الظلم والاضطهاد فخرجوا. وكان صلى الله عليه ويلم يصلي، وسلا جزورٍ قريب منه، فأخذه عقبة بن أبي معيط، فألقاه على ظهره، فلم يزل ساجداً، حتى جاءت فاطمة فألقنه عن ظهره، فقال حينئذ: “اللهم عليك بالملأ من قريش”.

وفي أفراد البخاري: أن عقبة بن أبي معيط أخذ يوماً بمنكبه صلى الله عليه وسلم ، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه به خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر فدفعه عنه وقال أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟

المصدر
موقع قصة الإسلام

التعريف بخاتم الأنبياء محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم – الجزء الأول

نسبه صلى الله عليه وسلم
هو أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وعدنان من ولد إسماعيل عليه السلام.

أسماؤه صلى الله عليه وسلم
محمد، أحمد، الماحي الذي يمحو الله به الكفر، الحاشر الذي يحشر الناس على قدميه، العاقب الذي ليس بعده أحد، المقفي، نبي التوبة، نبي الرحمة.

طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم
ولد صلى الله عليه وسلم من نكاح صحيح، يقول صلى الله عليه وسلم: “إن الله عز وجل اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم”، وحينما سأل هرقل أبا سفيان عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “هو فينا ذو نسب، فقال هرقل: كذلك الرسل تبعث في نسب قومها”.

ولادته صلى الله عليه وسلم
ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في شهر ربيع الأول، قيل في الثاني منه، وقيل في الثامن، وقيل في العاشر، وقيل في الثاني عشر. قال ابن كثير: والصحيح أنه ولد عام الفيل، وقد حكاه إبراهيم بن المنذر الحزامي شيخ البخاري وغيره.
وتوفي أبوه صلى الله عليه وسلم وهو حَمْل في بطن أمه، وقيل بعد ولادته بأشهر وقيل بسنة، والمشهور الأول.

رضاعه صلى الله عليه وسلم
أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب أياماً، ثم حليمة السعدية، وأقام عندها في بني سعد نحواً من أربع سنين، وشُقَّ عن فؤاده هناك، واستخرج منه حظُّ النفس والشيطان، فردته حليمة إلى أمه إثر ذلك.
ماتت أمه بالأبواء وهو ابن ست سنين، وحضنته أم أيمن وهي مولاته ورثها من أبيه، وكفله جده عبد المطلب، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر ثماني سنين توفي جده، وأوصى به إلى عمه أبي طالب فكفله، وحاطه أتم حياطة، ونصره وآزره حين بعثه الله أعزّ نصر وأتم مؤازرة مع أنه كان مستمراً على شركه إلى أن مات، فخفف الله بذلك من عذابه.

صيانة الله تعالى له من دنس الجاهلية
لقد صانه الله وحماه منذ صغره، وطهره من دنس الجاهلية ومن كل عيب، ومنحه كل خُلقٍ جميل، حتى لم يكن يعرف بين قومه إلا بالأمين، ولما أرادت قريش تجديد بناء الكعبة اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود، فانتظرو أول من يمر عليهم، فكان هو صلى الله عليه وسلم، فقالوا: جاء الأمين، فأمر بثوبٍ، فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل قبيلة أن ترفع من أحد جوانب الثوب، ثم أخذ الحجر فوضعه موضعه صلى الله عليه وسلم.

صفته صلى الله عليه وسلم
كان صلى الله عليه وسلم ربعة، ليس بالطويل ولا بالقصير، أزهر اللون أي: أبيض بياضاً مشرباً بحمرة، أشعر، أدعج العينين، أي: شديد سوادهما، أجرد أي: لا يغطي الشعر صدره وبطنه، ذو مَسرُبه، أي: له شعر يكون في وسط الصدر والبطن.

زواجه صلى الله عليه وسلم
تزوجته خديجة وله خمس وعشرون سنة، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت، ثم تزوج سودة بنت زمعة، ثم عائشة، ولم يتزوج بكراً غيرها، ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب، ثم زينب بنت خزيمة، ثم أم سلمة، ثم زينب بنت جحش، ثم جويرية بنت الحارث، ثم أم حبيبة، ثم صفية بنت حييّ بن أخطب، ثم ميمونة بنت الحارث.

المصدر
موقع قصة الإسلام

بلاد ما وراء النهر

بلاد ما وراء النهر أو ما يعرف الآن ببلاد وسط آسيا أو آسيا الوسطى، تعبير أطلقه الجغرافيون والمؤرخون المسلمون على المنطقة المحصورة بين نهري جيحون (آموداريا) في الجنوب، وسيحون (سرداريا) في الشمال، وسكانها من العنصر التركي الذي انحدر إليها من الشرق منذ القرن السادس الميلادي ، وكونوا لهم عدة ممالك مستقلة فيها ، وهي اليوم تضم خمس جمهوريات إسلامية كانت خاضعة للاتحاد السوفيتي، ثم مَنَّ الله عليهم فاستقلوا بعد انهياره، وهذا الجمهوريات هي الآن أوزبكستان وطاجيسكتان وقازاخستان وتركمانستان وقرغيزيا.

الأمويون وبلاد ما وراء النهر
تعد المرحلة الحاسمة لفتح بلاد ما وراء النهر جاءت على يد الفاتح البطل قتيبة بن مسلم الباهلي ، ففي غضون عشر سنوات (86- 96هـ) بسط السيادة الإسلامية على كل البلاد. وقد توالت إغارات الأتراك الشرقيين على بلاد ما وراء النهر حتى أخذوا يشكلون خطرا على الدولة الأموية التي تصدَّت لذلك الخطر بجرأة وجسارة، وقام الولاة الأمويون مثل : الجراح بن عبد الله الحكمي، وعبد الله بن معمر اليشكري، الذي تابع الغزو في الجزء الشمالي الشرقي من البلاد ونسب إليه أنه هم بغزو الصين نفسها.

وظلت الدولة الأموية والأتراك الشرقيون في صراع يتبادلون النصر والهزيمة حتى تغلبت كفة الدولة الأموية على يد الوالي الشجاع أسد بن عبد الله القسري (117- 121هـ) ونصر بن سيار (121- 129هـ) الذي حظي بمكانة في تاريخ الجهاد الإسلامي في تلك البلاد لا تقل عن مكانة قتيبة بن مسلم، فهو الذي حمى بلاد ما وراء النهر من خطر الأتراك الشرقيين.
وخلاصة القول: أن فتح بلاد ما وراء النهر وتثبيت ذلك الفتح وتهيئتها لقبول الإسلام، عقيدة وفكرا وثقافة وسلوكا يعتبر من أهم منجزات العصر الأموي.

العباسيون وبلاد ما وراء النهر
ظل الأمويون يخوضون معارك تثبيت الفتوحات الإسلامية في بلاد ما وراء النهر ، وحمايتها من خطر الأتراك الشرقيين إلى آخر أيامهم، فلما سقطت دولتهم سنة 132هـ وقامت الدولة العباسية واصلت- تلك الأخيرة- السياسية نفسها بل إن العباسيين واجهوا خطرا جديدا، وهو الخطر الصيني، فقد رنت الصين إلى السيطرة لا على الأتراك الشرقيين فحسب، بل على بلاد ما وراء النهر ذاتها.

ولم تكن الأطماع الصينية تقف عند حد السيطرة السياسية، وإنما كانت ترمي إلى الاستيلاء على طرق التجارة التي تعبرها القوافل من الشرق الأقصى إلى بلاد ما وراء النهر ثم إلى موانئ البحرين الأسود والأبيض المتوسط ثم إلى أوربا، وهذه المطامع الصينية جعلت الصدام مع الدولة العباسية أمرا محتما.

معركة طلاس
وبالفعل التقى الجيشان الصيني والعباسي في معركة طلاس سنة (134 هـ/ 752 م) والتي انتصر فيها الجيش العباسي انتصارا عظيما، كان أعظم الانتصارات العربية في وسط آسيا. وبعد هزيمتهم تراجع الصينيون، بل كان أثر الهزيمة شديدا عليهم إلى درجة أنهم تقاعسوا عن نصرة أمير أشروسنة عند ما استغاث بهم ضد المسلمين، وكان هذا يعني أن العباسيين قد نجحوا في إبعاد الصين عن المعركة.

وبات على الأتراك الشرقيين أن يواجهوا العرب معتمدين على أنفسهم وكان هذا فوق طاقتهم؛ لأن العباسيين أولوا المنطقة عناية كبيرة، وواصلوا جهودهم في صد العدوان إلى أن زال خطر الأتراك الشرقيين، وانتشر الأمن على الحدود، وارتفع شأن الحكومة الإسلامية في عيون الناس، مما مكّن للإسلام أن يمضي قدما في طريق الانتشار والنجاح.

السياسة العباسية في بلاد ما وراء النهر
وقد واكبت السياسة العباسية هذا التطور، وشجعت الأتراك على اعتناق الإسلام بالإكثار من استخدامهم في الإدارة بل في الجيش نفسه، والحق أن العباسيين اقتدوا في ذلك بالأمويين، الذين سبق أن استخدموا غير المسلمين في الجيش، فجاء العباسيون وتوسعوا في هذا المجال، فقد أنشأ الفضل بن يحيى البرمكي في عهد هارون الرشيد فرقة كبيرة في خراسان من الأتراك الغربيين، بلغ عدد أفرادها خمسين ألف مقاتل بعث منهم عشرين ألفا إلى بغداد ، وأطلق عليهم اسم الفرقة العباسية واشترك في قوات علي بن عيسي رجال من الصغد، وكان جيش طاهر بن الحسين يضم سبعمائة من الخوارزمية، والجديد في الأمر هنا هو استخدام الجنود الأتراك في بغداد نفسها.

كما استن الخليفة المأمون (198- 218هـ) سنَّة جديدة، حيث دعا كثيرين من زعماء الأتراك إلى الدخول في خدمته في بغداد ومنحهم الصلات والعطايا، وألحق كثيرا من فرسانهم بالحرس الخليفي.

وفي عهد الخليفة المعتصم (218- 277 هـ) وضح أن الإسلام قد تمكن في بلاد ما وراء النهر، ورسخت أقدامه، حتى أن الأتراك الغربيين أنفسهم قد أصبحوا مادة الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن الإسلام ونشره بين الأتراك الشرقيين، يقول البلاذري: “والمعتصم بالله جل شهود عسكره من جند أهل ما وراء النهر، من الصغد والفراغنة وأهل الشاش وغيرهم، وحضر ملوكهم ببابه، وغلب الإسلام على ما هناك، وصار أهل تلك البلاد يغزون من وراءهم من الترك ففتح مواضع لم يصل إليها أحد من قبله”

المصدر
موقع التاريخ

الأندلس كيف دخلها المسلمون وكيف خرجوا منها؟

كان أول توجه لجيش الفتح الإسلامي نحو الأندلس من أجل غزوها وفتحها سنة 91هـ، تحت قيادة طريف بن زرعة، ثم غزوها في العام التالي 92هـ ، تحت قيادة طارق بن زياد، وكان عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفاً، وتم الفتح العظيم، وانتشر المسلمون وجيشهم في قرطبة، وغرناطة، وطليطلة في الشمال، وأصبحت جميع الأرض الأندلسية خاضعة للمسلمين منذ ذلك التاريخ، وتعاقب على حكم الأندلس منذ ذلك الحين ستة عصور، وهي: عصر الولاة (95 – 138هـ) وعصر الدولة الأموية (138 – 422هـ) وعصر ملوك الطوائف (422 – 484هـ) وعصر المرابطين (484 – 540هـ) وعصر الموحدين (541 – 633هـ) وعصر دولة بني الأحمر (636 – 897هـ) .

شاءت حكمة الله تعالى أن ينتشر الإسلام في الأندلس، وتسعد به أجيال كثيرة أراد الله لهم الهداية والخير، وكان السبب في هذا بعد الله تعالى يعود إلى صقر قريش عبدالرحمن الداخل سنة 138هـ الذي ضبط الحكم فيها، وأعاد إليها النظام والوحدة، وأدارها بكل حكمة وقوة، مما أدى إلى استقرار الحكم فيها، لتكون بعد ذلك مدخلاً وسبباً في وصول الثقافة العربية الإسلامية إلى أوربا.

كما هو معلوم فقد تعاقب على حكم الأندلس الكثير من الأمراء والسلاطين، كان بعضهم قوياً، وبعضهم الآخر ضعيفاً، ومن السلاطين الأقوياء عبدالرحمن الناصر (300 – 350ه)، الذي يعرف بأنه الفاتح الثاني للأندلس، حيث استرد ما ضاع منها من الولايات، وبلغت قرطبة أوجها في عهده، ومنهم المنصور بن أبي عامر الذي أعاد فتحها مرة ثالثة، وأخضع القلاع المسيحية والمدن النصرانية لحكم الإسلام، وفتح برشلونة، ثم انفرط العقد من بعده، وقامت إمارات ودويلات، يغلب على معظم أمرائها الضعف والوهن، ويشغلهم اللهو، وبلغ عدد هذه الدويلات حولي (20) إمارة، توزعت على جميع الأندلس، ومنهم: بنو حمود، وبنو عباد، وبنو زيري، وبنو برزال، وبنو يحيى، وبنو جهور، وبنو ذي النون، وبنو هود، إلى غير ذلك، كل منهم استولت على ناحية منها.

اتفقت أهم قوى النصارى في ذلك الوقت وتوحدت دولة قشتالة وأراغون بعد زواج أميريهما فرديناند وإيزابلا، وكان نتيجة هذا الاتحاد أن توحيد القيادة، في الوقت الذي كانت قوة المسلمين في تشرذم، وقيادتهم في انقسام وتشتت، حيث ثار أبو عبدالله بن الأحمر على والده “أبي الحسن”، وتعاون مع المسيحيين على حرب والده، ثم على حرب عمه محمد الثاني المعروف بالزغل بعد موت أبيه، وبلغ به العداء لعمه أنه لما فتح فرديناند وأيزابلا مدينة مالقة الإسلامية أرسل إليهما أبو عبدالله بالتهاني، وأعطاهما عهداً إن هما استوليا على إمارة الزغل أن يسلم لهما غرناطة، فتم لهم ذلك عام 896هـ، وخرج الزغل إلى إفريقية، فطلب فرديناند من أبي عبدالله الوفاء بوعده، فتماطل وحاول الصمود، ولكن جيوش الصليبيين تقدمت إلى غرناطة مصممة على فتح آخر حصن للإسلام والمسلمين في إسبانيا. وتم لهم ذلك، فصالحهم أبو عبدالله، وخرج المسلمون من غرناطة في سنة 1492م في ذلة ومهانة. حيث بدأت محاكم التفتيش في التعذيب والقتل والنفي، وبدأت معاناة أهل الأندلس من المسلمين ومن اليهود، وكانوا يجبرونهم على التنصر أو الموت، وقد تمسك أهل الأندلس بالإسلام ورفضوا الاندماج مع المجتمع النصراني. ،وبقي المسلمون رغم هذا متمسكين بإسلامهم، يدافعون عنه بكل قوة.

ويمكن إجمال أهم تلك الأسباب في عدة نقاط منها: ما تمثل في ضعف العقيدة الإسلامية عند معظم السلاطين وأهل القرار، أو أصحاب المال والجاه فيهم، وانحرافهم عن منهج الإسلام الحق، ومولاتهم للنصارى، والتحالف معهم؛ فيمكن أن نقول – وبكل أسف – أن تاريخ العرب والمسلمين في الأندلس مليء بمثل هذه التحالفات المهينة، مخالفين في ذلك قول الله تعالى: (لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ في شَيْءٍ) [آل عمران: 28]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أَوثَقُ عُرَا الإيمان الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحبُّ في الله، والبغض في الله) ومن الأمثلة على تلك التحالفات ما فعله المعتمد بن عباد وغيره الذين كانوا يطلبون المساعدة من ملك قشتالة في حربه ضد أقاربه من أمراء الطوائف من أجل استئصالهم، بدل أن يتحد معهم ضد النصارى من أجل تحقيق مصلحة المسلمين وأهدافهم التي باتت مهددة في الأندلس.

ومن تلك الأسباب المهمة أيضاً الانغماس في الشهوات، والركون إلى الترف، وعدم توجيه طاقات الأمة نحو معالي الأمور والجهاد بأنواعه، في الوقت الذي كانوا يرون فيه العدو وهو يجمع طاقاته ويوحد صفوفه لحربهم والتخلص منهم، ويرى بعض المؤرخين أن الأندلسيين خاصة الشباب منهم ألقوا بأنفسهم في أحضان الترف والمجون، حتى ذهبت أخلاقهم، وماتت فيهم حمية الإسلام ومظاهر العزة والكرامة، واهتمت نساؤهم بمظاهر الزينة والتربج، ويكفي للوقوف على مقدار هذا الترف ما فعله المُعْتَمِد في القصة المشهورة مع إحدى زوجاته، التي اشتهت أن تمشي في الطين فأمر أن يخلط الطين بالمسك والزعفران، لتخوض فيه وتحقق شهوتها.

ومن تلك الأسباب إلغاء الخلافة الأموية وإعلان بداية قيام عهد الطوائف، الذين كان غالبهم ليس مؤهلا لقيادة الأمة الإسلامية والنهوض بها وإعادتها إلى ما كانت عليه فيما مضى، مما أدى إلى ضعف المسلمين ووصولهم إلى تلك الحالة من المهانة.

ومن تلك الأسباب وجود الفرقة والاختلاف بأنواعه بين المسلمين، حتى أصبح سمة من سمات عصر الطوائف، حتى كان بعضهم يضطر إلى عقد العهود مع النصارى ضد إخوانه وأقاربه من أجل السلطة، ولما سقطت طُلَيْطِلَة وقف بعض ملوك الطوائف صامتين عن نجدتها، وكأن الأمر لا يعنيهم، وتغافلوا عن أن ملك النصارى ألفونسو لا يفرِّق بين طليطلة وبين غيرها.

ومن الأسباب المهمة كذلك تخلي بعض علماء المسلمين أو معظمهم عن القيام بواجباتهم، ذلك أن الواجب الديني لا يقوم به إلا العلماء الربانيين، وكلَّما ابتعد العلماء عن الربَّانية تثاقلت نفوسهم، وازداد اهتامهم بمصالحهم الشخصية, وعدم الاهتمام بمصالح الأمة الحقيقية، كما هو الحال في أيامنا هذه، وهو ما يؤدي إلى ضعف الأمة، وتقهرقها، ثم هناك أمر آخر وهو عدم سماع ملوك الطوائف لنصائح العلماء الصادقين في ذلك الوقت، بل ومحاولة التضييق عليهم، كما هو حالنا هذه الأيام، فكانت نصائح العلماء لا تصادف أسماع السلاطين، حتى حلَّت بهم المصيبة، وهي سقوط طليطلة، وما بعدها.

ومن الأسباب التي أدت إلى ذهاب دولة المسلمين في الأندلس أن النصارى استطاعوا أن يتفقوا ويوحدوا كلمتهم ويضعوا البرامج والمخططات التي تقوم على الغدر والخيانة، بالتعاون مع بعض الخونة، من أجل القضاء على ملوك الطوائف ببث الفتنة بينهم، فهم كما قال الله تعالى: (لاَ يَرْقُبُونَ في مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) [التوبة: 14] حيث مارسوا كل الأساليب الممنوعة من أجل تحقيق أهدافهم كما هو معلوم في محاكم التفتيش. وكان من أكثر ملوك النصارى نشاطاً واهتماماً بهذا الأمر فرناندو ملك قشتالة.

المصدر
موقع التاريخ

السيادة البحرية الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين

كان الروم البيزنطيون أشد أعداء المسلمين، وأقواهم شكيمة، وقد أدرك معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه هذه الحقيقة حيث قضى أربعين عاما في قتالهم، منذ أن كان واليًا على الشام في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإلى وفاته سنة 60هـ، ولذلك نراه يوصي من بعده بقوله: “شدوا خناق الروم، فإنكم تضبطون بذلك غيرهم من الأمم”.

وفي إقليم الشام تاخمت حدود الدولة الإسلامية حدود الإمبراطورية البيزنطية، كما جاورت ممتلكات تلك الإمبراطورية سواحل الشامل في حوض البحر المتوسط الشرقي، ومن ثم هدد الخطر البيزنطي إقليم الشام برًا وبحرًا.

ويعتبر الانتصار الحاسم الذي أحرزه المسلمون على الجيوش البيزنطية في موقعة اليرموك 13هـ / 643م أو 15هـ/ 636م نقطة تحول هامة في حركة الفتوح الإسلامية، أدت إلى انهيار قوي الروم، وانفصال الشام عن جسم الإمبراطورية البيزنطية.

ويذكر المؤرخون أن هرقل عندما بلغه نبأ الكارثة التي حلت بجيوشه في معركة اليرموك رحل إلى القسطنطينية ، فلما تجاوز الدرب الذي يصل أرض الشام بأرض بيزنطة نظر إلى الأراضي السورية، وقال هرقل -يودعها بنظرة: “عليك يا سورية السلام، ونعم البلد هذا للعدو”.

فتح المدن الساحلية الشامية
وعلى إثر معركة اليرموك أخذت مدن الشام الكبرى في الشمال والجنوب تتساقط سريعا، الواحدة بعد الأخرى في أيدي المسلمين، ولم يكد هؤلاء ينتهون من فتح دمشق حتى وجهوا جهودهم لفتح المدن الساحلية الشامية والجزر الواقعة في الحوض الشرقي للبحر المتوسط:

• فقد استولى عمرو بن العاص رضي الله عنه في بداية فتوح الشام على موانئ غزة وعسقلان وعكا سنة 15هـ/ 636م.
• ثم استولى يزيد بن أبي سفيان الوالي على الشام -قِبَل أخيه معاوية- في خلافة عمر بن الخطاب على صيدا وصور وبيروت وجبيل سنة 17هـ/ 638م.
• واستولى عبادة بن الصلت -بأمر من يزيد بن أبي سفيان- على موانئ السواحل الشامية الشمالية، مثل اللاذقية وجبالة، وأنطرسوس.
• وعندما تولى معاوية بن أبي سفيان إمارة الشام بدأ النشاط البحري الكبير في شرق البحر المتوسط، وأظهر في فتح المنطقة الساحلية عبقرية فذة، وبذل فيها جهودا ذات بلاء حسن وأثر جميل على نحو ما شهد له بذلك قادة المسلمين، فاستولى على قيسارية سنة 19هـ/ 640م، وهي من أهم المدن الساحلية بالشام، ثم على مدينة طرابلس التي كانت ميناء دمشق ومفتاح حياتها الاقتصادية، وتتفوق على سائر مدن الشام في حصونها وبهائها.
• وقد اهتم معاوية بغزو جزر البحر المتوسط المواجهة لساحل الشام ليتخذها مراكز أمامية يوجه منها الغزوات البحرية إلى بلاد البيزنطيين نفسها، فاستولى على أرواد ورودس، ثم قاد أول حملة بحرية إسلامية على جزيرة قبرص، فتوجه إليها من عكا سنة 28هـ/ 645م، وما كادت السفن الإسلامية ترسو إلى ساحلها حتى أذعن أهلها بالطاعة للمسلمين، وصالحهم معاوية على جزية سنوية، واشترط عليهم أن يلتزموا الحياد في الصراع العربي البيزنطي، وأن يبلغوا المسلمين بسير عدوهم من البيزنطيين.

فلما كانت سنة 32هـ/ 652م أعان أهل قبرص البيزنطيين على الغزاة في البحر بسفن قدموها لهم، فغزاهم معاوية سنة 33هـ/ 653م في خمسمائة سفينة، وافتتح الجزيرة -في هذه المرة- عنوة، ثم أقرهم على صلحهم الأول، وأرسل إليهم اثني عشر ألفا من المسلمين ليقيموا في الجزيرة، ونقل إليها جماعة أخرى من مسلمي بعلبك، فبنوا المساجد والبيوت.

موقعة ذات الصواري ونتائجها
وقد خاص المسلمون في أواخر العصر الراشدي موقعة بحرية هامة ضد البيزنطيين، حسمت السيادة البحرية في حوض البحر المتوسط، وقلبت التفوق البيزنطي لصالح المسلمين، ونعني بها موقعة ذات الصواري سنة 34هـ/ 654م.

وتذكر المصادر العربية أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح أمير مصر خرج بأسطوله البحري من رشيد قاصدا أسطول الروم، وفي الوقت نفسه خرج بسر بن أبي أرطأة -وهو أحد قادة معاوية- بأسطوله من صور، وتلاقى الاثنان في البحر بالقرب من ساحل ليكيا عند فونيكة -في جنوب أنطاكية- حيث دارت المعركة هناك.

وكان الأسطول البيزنطي مكونا من خمسمائة مركب، أو سبعمائة وقيل ألف، في حين كان المسلمون في نحو مائتي مركب، وقد وصف أحد المسلمين المشاركين في المعركة شعوره حين تقابلت الأساطيل الإسلامية مع السفن البيزنطية، قائلا: “فالتقينا في البحر، فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط”.

ويبدو أن المسلمين أدركوا أن خوض قتال بحري ضد هذه الأعداد الضخمة من السفن المدربة مخاطرة غير مأمونة، فاختاروا أن يجعلوها حربا برية في البحر، فربطوا سفنهم المتقاربة في سفن الأعداء، وجعلوا من ظهورها ميدانا بريا للقتال، واشتدت المعركة، وقتل من الجانبين أعداد هائلة، واختلطت دماء القتلى بمياه البحر، فصبغته بلونها الأحمر القاني، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركاما.

وانتهى القتال بانتصار حاسم للمسلمين، وأسفر عن بداية لطور بحري جديد سيطر المسلمون فيه على حوض البحر المتوسط الشرقي على حساب البحرية البيزنطية، وأكسبهم خبرة طيبة في المجال البحري العسكري، مما فتح لهم آفاقا جديدة لميادين الامتياز والتفوق في مجابهة دولة الروم المتربصين بهم.

ويعلق الدكتور إبراهيم العدوي على معركة ذات الصواري، بقوله: “وتعتبر هذه الوقعة البحرية من المعارك الحاسمة القلائل التي غيرت مجرى تاريخ البحر المتوسط، إذ قضت على اتصافه بأنه بحر الروم، وجعلته حريا أن يدعى “بحر المسلمين”، فقد انطلقت فيه السفن الإسلامية في حرية تذهب حيثما تريد، رافعة علم الإسلام.

وتجلت أولى النتائج الهامة التي ترتبت على هذه المعركة الفاصلة عندما تخلى الإمبراطور البيزنطي قنسطانز ومن جاء بعده من الأباطرة عن فكرة طرد المسلمين من البلاد التي استولوا عليها في شرق البحر الأبيض المتوسط، واستعادة ما كان لهم من سالف النفوذ والسلطان هناك، إذ أدرك أولئك الأباطرة أن هذه الفكرة ضرب من الأحلام التي فات أوانها، وأن قدم المسلمين رسخت نهائيا على شاطئ البحر المتوسط الشرقي، فجنحوا إلى الاعتراف بالأمر الواقع، وادخار جهودهم وقوتهم إلى وقت قد يحتاجون فيه للدفاع عن دولتهم وحمايتها من التردي نهائيا في أيد المسلمين”.

المصدر
موقع التاريخ

استحداث البريد في زمن الخلفاء الراشدين

البريد اسم للمسافة التي بين كل محطة وأخرى من محطات البريد، وهي أربعة فراسخ، أو اثنا عشر ميلا، ثم أطلق على حامل الرسائل، وتوسعوا فيه الآن، فأطلقوه على أكياس البريد، وأصله من وضع الفرس، ثم استعمل في الإسلام، وأقيم له عامل مخصوص يسمى عامل البريد ينقل أخبار الولاة والبلاد لدار الخلافة والعكس.

والمشهور أن أول من وضعه في الإسلام معاوية بن أبي سفيان، ولعله أول من رتبه على طرق ومناهج مخصوصة رتب له الميل والمحطات وإلا، فالبريد معروف عند من قبله من الخلفاء الراشدين، واشتهر أمره في مدة سيدنا عمر بن الخطاب. ففي سيرة عمر للحافظ ابن الجوزي في الباب الرابع والثلاثين في ذكر عسسه بالمدينة وبعض ما جرى له في ذلك أن عمر لما أبعد نصر بن الحجاج عن المدينة إلى البصرة وكتب عمر إلى عامله كتابا لمكتب الرسول عنده أيا فاتح نادي مناديه ألا إن بريد المسلمين يريد أن يخرج، فمن كانت له حاجة فليكتب، فكتب نصر بن الحجاج كتابا ودسه في المكتب إلى أمير المؤمنين.

كما ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه أن الذي أتى بالعقد هدية من عند امرأة قيصر الروم إلى زوج عمر هو بريد المسلمين.

وفي كتاب الطائر الغريد في وصف البريد للعرب في نظام البريد: أول ما استعمل العرب لنقل البريد الإبل، ثم استبدلوها بالبغال، ثم بالخيل لسرعتها، وكان لكل سفر بريد يتولى قيادة المسافرين وميل العرب للتنقل بالأسفار، وكان أعظم مساعد على أطراد سير البريد الطويل ما بين البلاد الشاسعة بكل ضبط، وهذه الوظيفة كانت عندهم من الوظائف العالية التي لا يوليها إلا الخليفة نفسه ولا يتولاها إلا ذو الأهلية.

وجاء في كتب الإفرنج أن ابتداء ترتيب البريد عند العرب بعد الهجرة النبوية بأمر أول خليفة، وكان يتسع بإتساع فتوحاتهم التي بلغت مسافات شاسعة، وأعظم اتساع ونظام في بريد العرب كان في عهد الخلفاء العباسيين، حيث بلغت محطات البريد نحو ألف محطة، كانت تسمى عندهم بالسكك، ومع هذا الإتساع كانت الأشغال سائرة بكل دقة في مواعيد السفر والوصول والأمنية، فقد كان لكل محطة رئيس لملاحظة سير السعادة والخيالة وحالة المحطات، وكان جميع هؤلاء الرؤساء مضطرين أن يقدموا تقاريرهم عن كل ما يحدث في الخطوط إلى عموم الإدارة في بغداد التي كانت النقطة المركزية.

والرئيس العالي يعرض ذلك على الخليفة نفسه الذي كان يهتم بالبحث عن أحوال البريد، وكان للبريد لائحة عمومية تحتوي على قوانين البريد في سيره وجغرافية الطرق، وكان ينفق على البريد مبالغ وافرة، قيل: إن نفقة فرع اليمن فقط كانت تبلغ نحو أربعة ملايين درهم سنويا، وهي عبارة عن أربعة ملايين ونصف من الفرنكات، ومن ذلك يعلم قدر نفقات باقي الخطوط، وما كان يبذله العرب لتنظيم البريد وقدر أهميته عندهم، واتخذ العرب العلامات لرسل البريد في عهد الخلفاء العباسيين كانت علاماتهم قطعة من الفضة بقدر الكف قد كتب على أحد صفحتها البسملة واسم الخليفة وعلى الصفحة الثانية هذه الآية: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} [الأحزاب 45].

وفي كتاب الخطط للتقي المقريزي أن إبراهيم بن الأغلب لما ولي على إفريقية سنة 261 كانت القوافل والتجار تسير في الطرق وهي آمنة والحصون والمحارس على ساحل البحر حتى كانت توقد النار من مدينة سبتة إلى الإسكندرية فيصل الخبر منها إلى الإسكندرية في ليلة واحدة وبينهما مسيرة أشهر.

المصدر
موقع التاريخ

غدر اليهود ونقضهم العهود مع الرسول

لما انتصر المسلمون في غزوة بدر، اغتاظ اليهود في المدينة بشدّة، فكان يهود بني قينقاع يسخرون من المسلمين، ويقللون من شأن انتصارهم يوم بدر، وقام شاعرهم كعب بن الأشرف بحملة عدائية ضد المسلمين، وأخذ يبكي بشعره قتلى بدر من المشركين، ويحرض قريشًا على الأخذ بثأرها، ومحو عار هزيمتها.

وتمادى يهود بنو قينقاع في شرهم، فاعتدوا على امرأة مسلمة، دخلت سوقهم لتبيع مصاغًا لها، فأحاط بها عدد من اليهود وآذوها، وطلبوا منها أن تكشف عن وجهها، فأبت، فعقد الصائغ ثوبها إلى ظهرها وهي لا تشعر، فلما قامت تكشفت فضحكوا عليها، فصاحت واستغاثت.

فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فتجمع اليهود على المسلم فقتلوه، فلم يجد رسول الله عليه الصلاة والسلام بدًّا من غزو هؤلاء الخائنين، وقد نقضوا العهد الذي بينه وبينهم بهذه الفعلة النكراء، فحاصرهم خمس عشرة ليلة، ثم فكّ الحصار عنهم وأجلاهم عن المدينة بعد أن أخذ أسلحتهم، فارتحلوا مخذولين إلى حدود بلاد الشام.

ولم يتعظ من بقي من قبائل اليهود بما حدث لإخوانهم من بني قينقاع، وراحوا يمارسون هوايتهم وطبعهم في المكر ونسج المؤامرات، وازدادت جرأتهم بعد غزوة أحد، حتى وصل بهم الأمر أن خططوا لمؤامرة تهدف إلى التخلص من النبي عليه الصلاة والسلام.

وذلك عندما خرج إليهم النبي عليه الصلاة والسلام يطلب من يهود بني النضير مساعدته في دفع دية رجلين قتلهما أحد المسلمين خطأً، وكان ذلك يجب عليهم حسب بنود المعاهدة التي بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام ، فتظاهروا بالموافقة، لكنهم بيّتوا الشر، وطلبوا من النبي عليه الصلاة والسلام أن يجلس بجوار جدار أحد بيوتهم ينتظر وفاءهم بما وعدوا، وخلا بعضهم إلى بعض، واتفقوا على أن يلقى أحدهم صخرة كبيرة على النبي عليه الصلاة والسلام من فوق ذلك البيت فتقتله.

فنزل جبريل-عليه السلام- من عند رب العالمين، وأخبره بما هَمَّ به أولئك الخبثاء من غدر، فقام النبي عليه الصلاة والسلام مسرعًا، وتوجه نحو المدينة، ولحقه من كان معه من أصحابه، وعندما تأكد للنبي عليه الصلاة والسلام إصرار هؤلاء اليهود على الغدر، وتآمرهم وحقدهم على الإسلام، اتخذ قراره بإجلائهم عن المدينة.

ولقد شن اليهود على رسول الله عليه الصلاة والسلام قديمًا وحديثًا حملات إعلامية لتشويه صورته، وتنفير الناس منه ومن دينه ودعوته؛ لشعورهم بخطورة هذا الدين على مصالحهم، وعلى عقيدتهم المنحرفة القائمة على الاستعلاء واحتقار الناس عدا الجنس اليهودي.

فقد جاء رسول الله عليه الصلاة والسلام ينادي بعقيدة التوحيد وهم يقولون: عزير ابن الله، وجاء ينادي بالمساواة وهم يرون أنهم شعب الله المختار، ومن ثَمّ كثرت مواقفهم ومؤامراتهم الخبيثة؛ لمحاولة قتل النبي عليه الصلاة والسلام ، والقضاء على الإسلام في مهده الأول في المدينة المنورة.

هذه المؤامرات تتكرر بين الحين والحين، وتتغير أشكالها بتغير الزمان والمكان، لكنها لا تتوقف، ولن تتوقف، فقد أوضح الله تعالى للمسلمين أن عداوة اليهود لهم أبدية، لا تقبل التغيير، ولا تتحول إلى المسالمة والمحبة إلا إذا ارتد المسلمون عن دينهم، فقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].

هكذا شأن اليهود، فالعداوة للحق متأصلة فيهم يتوارثونها كابرًا عن كابر، فهم قتلة الأنبياء وأعداء الرسل وأعداء أتباعهم في كل عصر وفي كل مِصر.

إن مواقف اليهود الخبيثة والحاقدة على الإسلام وعلى رسول الله عليه الصلاة والسلام في المدينة كثيرة، وليس هذا حصرًا لها بقدر ما هو إشارة إلى بعض منها؛ للاستفادة منها في واقعنا.. فعلى المسلمين أن يتنبهوا لمؤامرات اليهود وغيرهم، وأن يقفوا يدًا واحدة أمام أطماعهم ومؤامراتهم.

المصدر
موقع التاريخ

اليهود ومؤامراتهم في المدينة

إن عداوة اليهود للنبي عليه الصلاة والسلام لا عجب فيها، فحالهم مع أنبيائهم، فريقًا كذبوا وفريقًا يقتلون، ومن ثَمّ لا غرابة أن يكذبوا ويعادوا ويتطاولوا على رسول الله عليه الصلاة والسلام، بل ويحاولوا قتله.

أما مواقفهم ومؤامراتهم على النبي عليه الصلاة والسلام وعلى المسلمين في المدينة فكثيرة، نشير إلى بعضها للاستفادة منها في واقعنا.

إساءة الأدب مع الرسول عليه الصلاة والسلام
كان اليهود يسيئون الأدب مع رسول الله عليه الصلاة والسلام في حضرته وأثناء خطابه، فكانوا يحيونه بتحية، في باطنها الأذى والحقد عليه عليه الصلاة والسلام ؛ مما يدل على خبثهم وسوء أخلاقهم وبغضهم الشديد لرسول الله عليه الصلاة والسلام .

عن عائشة-رضي الله عنها- قالت: (جاء ناس من اليهود إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالوا: السَّامُ (الموت) عليك يا أبا القاسم. فقلت: السام عليكم، وفعل الله بكم. فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام : «مه يا عائشة؛ فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش».

فقلت: يا رسول الله، ترى ما يقولون؟ فقال: «ألست تريني أرد عليهم ما يقولون وأقول: وعليكم» (رواه البخاري). قالت: فنزلت هذه الآية في ذلك، وهي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة: 8].

تفكيك الجبهة الداخلية للمسلمين
ولقد حاول اليهود-كعادتهم- تصديع وتفكيك الجبهة الداخلية للمسلمين، فهذه إحدى وسائلهم الخبيثة-قديمًا وحديثًا- في حرب الإسلام، وذلك بإثارة الفتن الداخلية، والشعارات الجاهلية، والدعوات القومية والقبلية، والسعي بالدسيسة للوقيعة بين المسلمين.

روى الطبري في تفسيره: أن شاس بن قيس اليهودي، كان عظيم الكفر شديد العداوة للمسلمين، مرّ يومًا على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس يتحدثون، فغاظه ذلك حيث تآلفوا واجتمعوا بعد العداوة، فأمر شابًّا من اليهود أن يجلس إليهم ويذكّرهم يوم بُعاث، وينشدهم ما قيل فيه من الأشعار، وكان يومًا اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس، ففعل، فتشاجر القوم وتنازعوا، وقالوا: السلاح السلاح!

فبلغ النبي عليه الصلاة والسلام ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار، فقال: «أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، وألف بينكم».

فعرف القوم أنه نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فما كان يوم أقبح أولاً وأحسن آخرًا من ذلك اليوم، وأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 99].
ومن خلال هذا الموقف نرى قدرة النبي عليه الصلاة والسلام على إفشال مخطط اليهود الهادف لتفتيت وحدة الصف، وكذلك اهتمامه عليه الصلاة والسلام بأمور المسلمين وإشفاقه عليهم، وفزعه مما يصيبهم من الفتن والمصائب، فقد أسرع إلى الأنصار وذكّرهم بالله، وبيّن لهم أن ما أقدموا عليه من أمر الجاهلية.

وذكّرهم بالإسلام وما أكرمهم الله به من القضاء على الخلاف، وتطهير النفوس من الضغائن، وتأليف القلوب بالإيمان، فمسحت كلماته عليه الصلاة والسلام كل أثر لأمر الجاهلية-بفضل الله تعالى-، فأدركوا أن ما وقعوا فيه كان من وساوس الشيطان وكيد عدوهم من اليهود، فبكوا ندمًا على ما وقعوا فيه وتعانقوا؛ تعبيرًا على وحدتهم ومحبتهم الإيمانية لبعضهم.

المصدر
موقع التاريخ

تبوك آخر الغزوات وأول الفتوحات – الجزء الثالث

الحوار أكثر من القتال
ولعل الصلح مع دومة الجندل يؤشر إلى ما توخاه الرسول من غزوته التي بدا أنها ترمي إلى تحقيق مصالحات مماثلة، تؤمن له الاستقطاب، عبر الحوار أكثر من القتال، لعدد من القبائل، فإن لم تنخرط في دعوته، اكتنهت بعض قيمها، آخذًا في الاعتبار ما يجمعها من جذور مشتركة مع المسلمين. وفي ضوء ذلك كانت تبوك نقطة انطلاق إلى رؤساء القبائل العربية من حولها، حيث وجّه كتبه الداعية إلى نبذ عبادة الأصنام والانضواء في عقيدة قومهم. كما كان لنزوله في تبوك صدى لدى التجمعات القبلية القريبة منها، فما لبث أن قدم إليه يحنة بن رؤبة صاحب أيلة (على ساحل بحر القلزم)، فصالحه الرسول على أن يؤدي الجزية، وذلك مقابل عهد «بألا يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقًا يريدونه..» حسب رواية الواقدي.

وعلى نحو ما نهج عليه الرسول في دومة وأيلة، عقد صلحًا مع تيماء (على ثماني مراحل من المدينة)، وجرباء وأذرح (قريتان في الشام)، ومقنا (قرب أيلة)، وفاق عهد بالأمان على أنفسهم وتجاراتهم، مقابل الجزية، استنادًا إلى رواية الواقدي الذي توسع في تفاصيل هذه العهود، مضيفًا في هذا السياق أن «نفرًا من بني سعد قدموا على الرسول (في مقره)، وكانوا يعانون شح بئرهم وقد اشتد عليهم القيظ، فطلبوا أن يدعو لهم في بئرهم».

ولعل ما يمكن استخلاصه من ذلك، أحد أمرين: إما أن بني سعد كانوا على عقيدة الإسلام، وإما أنهم تأثروا بالأفكار التي تداعت إليهم خلال مقام الرسول في تبوك، وتواصله الحواري مع القبائل المنتشرة حول الأخيرة، مما يرجح بأن ثمة تغيرًا بدأ يسود المنطقة، أو على الأقل بدأت ترهص به، من خلال احتكاكها بالسرايا السالفة، حيث راكمت حضورًا ما للإسلام. فجاءت غزوة تبوك تعمق هذا الحضور لدى القبائل التخومية، المبهورة حينذاك بشخصية الرسول، وقد رأت فيه من سمو الخلق وارتقاء السلوك القيمي، ما لم تعهد مثلهما من قبل.

ولعل ما يمكن استنتاجه من هذه المعاهدات، أن الرسول بعد فتح مكة، أصبح في موقع المبادر الذي يُمسك بزمام التوقيت، فضلاً عن تعزيز قوته العسكرية، مقارنةً بما كانت عليه إبان سرية مؤتة، التي ظلت في هواجسه، وما برحت تستثيره ذكرياتها، لاسيما المتصلة بالشهداء الثلاثة الكبار الذين سقطوا على أرضها. ومن هذا المنظور كانت تبوك في صميم سياساته الشامية، التي عبّرت عنها سرية مؤتة بصورة غير مألوفة في السرايا ذات الأهداف المحدودة في هذا الاتجاه. وإذا كان الرسول قد تجنب الاقتراب من المنطقة التي انتهت إليها السرية السالفة، حيث احتشدت القبائل المعادية في البلقاء، فإن مؤتة لم تغب عن باله وهو في آخر أيامه، عندما جهّز «بعث أسامة» في السنة الحادية عشرة للهجرة، وأوصى الأخير، كما في مروية ابن سعد قائلا: «سر إلى موضع مقتل أبيك (زيد بن حارثة)، فأوطئهم الخيل، فقد ولّيتك هذا الجيش».

غزوة التحديات
والسؤال الآن، هل كانت تبوك ردة فعل على مؤتة، أو مجرد ثأر لشهدائها، كما يبدو في الوصية السالفة؟ وإن صح ذلك، فلا يتعدى جزءًا من الحقيقة وليس كلها، كما أن بعث أسامة لن يكون دقيقًا تقويمه، إلا في سياق المشروع السياسي التوسعي في اتجاه الشام. وما جاء في الوصية إنما يندرج في التحريض على المستوى الشخصي، بما يشكل دفعًا لهذا المشروع واستمرارًا له، كذلك رسالة لمن بعده، بإعطاء الأولوية للشام في سياسات خلفائه.

وهكذا، في غمرة التحولات على جبهة الحجاز وكانت غزوة تبوك استجابة لتحديات ما انفك الرسول منذ العام الهجري السادس، يخوض مواجهة معها. ولم يكن حينئذ ليغامر بذلك العدد الكبير من المسلمين، من دون رصد الأحوال في الشام، مختارًا الوقت والمكان المناسبين. ولذلك سلك طريقًا لا تأخذ به إلى صدام مسلح مع القبائل، أو مع البيزنطيين في تمركزهم البعيد، إذ قرأ جيدًا أبعاد المهمة التي كانت واضحة الهدف، وضوح النتائج التي انتهت إليها. وقد تكون القبائل، حتى المرابطة في البلقاء، تجنبت بدورها الصدام مع الغزوة، بعدما تصادى في وعيها شيء من فكر الإسلام، القادم من بيئة عربية، وربما وجدت فيها ذاتها المصادرة في ظل الحكم البيزنطي.

وقد لا نبتعد عن الحقيقة في قراءتنا لغزوة تبوك بأنها الإطلاقة الأولى لحركة الفتوح الشامية، إذ كانت الهالة التي أحطيت بها، وما أسفرت عنه من تداعيات إيجابية لدى بعض القبائل العربية، قد أرست تراثًا استلهمه الخليفة الأول وأصحابه، ممن شاركوا في الغزوة، متابعين المسيرة دون تهيّب وغير عابئين بمعادلة توازن القوى التي طالما اخترقوها في حروبهم الحجازية. ولا نجافي أيضًا الحقيقة، بأن هذه الغزوة، على الرغم من عدم احتكاكها بالبيزنطيين، فإنها أحدثت ثغرة في نظامهم على ساحة الشام، وعرقلت مشروع هرقل الجديد لغرض السيطرة المباشرة على الأخيرة، بعد اختراقها بجرأة الجبهة القبلية التي كان مطمئنًا إلى انخرطها في نفوذه.

ويبقى أن الإمبراطورية البيزنطية، وهي الأساس امتداد شرقي لإمبراطورية الرومان المتهاوية في الغرب، قد بدأ ينال منها الهرم، نتيجة الصراعات المتفاقمة على السلطة، ولم تنقذها هزيمة هرقل للفرس. وفي هذا الوقت كان الإسلام تترسخ جذوره «دولة» فتية، وقضية مضيئة في عقول المسلمين، وخيار النصر أو الشهادة يتبلور إيمانًا ويقينًا في نفوسهم. فلم يجدوا صعوبة في مطالع العهد الراشدي، في دحر البيزنطيين من الشام، بعد معارك مظفرة، سرعان ما ضوت إليها القبائل العربية، سواء المتعاهدة مع الرسول في تبوك، أو تلك المنتشرة في البلقاء والتي كانت هدفًا مباشرًا لبعث أسامة، وحالت وفاة الرسول دون تحقيق المهمة المعقودة عليها.

المصدر
موقع التاريخ