سرية مؤتة
لعل نكبة المسلمين في ذات أطلاح، حدت بالرسول إلى تعديل خطته في هذا السياق، بتعزيز عديد السرايا الموجهة إلى أرض الشام. وهذا ما يتأكد في سرية مؤتة (السنة الثامنة) التي حشد لها ثلاثة آلاف مقاتل، وعلى رأسهم زيد بن حارثة قائدًا، ومعه جعفر بن أبي طالب، يحل مكانه إذا قُتل، وعبدالله بن رواحة، تئول إليه القيادة إذا ما قتل الثاني. وكان فيها أيضًا قائد أبلى لاحقًا في حروب الردة والفتوح وهو خالد بن الوليد. هذه السرية كان لها صدى واسع في أدبيات المسلمين، إذ هي تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية بعد غزوة تبوك.
ولكن بقدر ما كانت أهداف الأخيرة واضحة، كان اللبس، أو كثير منه، يحيط بالأولى، سواء في أهدافها أو تداعياتها، وربما طغى عليها برق القادة الثلاثة الذين استشهدوا في معركة مبهمة. وعلى الرغم من إنقاذ خالد بن الوليد السرية من هزيمة محققة، مُنسحبًا مع المقاتلين في الوقت المناسب، فقد رأى فيها الرسول (صلى الله عليه وسلم) انتصارًا، على الأقل، في ما حققته من اختراق لمنطقة بعيدة من أرض الشام. وبات لشدة منافحته عن هذه السرية، وكأنه من شهودها، مستبرًا أبعادًا وأهمية نتائجها، حتى إن بعض الإخباريين أدرجوها بين الغزوات التي اصطلح أن تكون بقيادته. وقد تبنى هذا التقييم ابن كثير في وصفه لسرية مؤتة، بأن «هذه الغزوة كانت إرهاصًا لما بعدها من غزو الروم وإرهابًا لأعداء رسول الله».
ومن هذا المنظور نكتنه المغزى البعيد لسرية مؤتة، في أنها لم تنعكس إحباطًا على المدينة أو تعثرًا لمشروع الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وإنما كانت الحافز للاستمرار في النهج، عندما انطلقت مباشرة بعدها حملة ذات السلاسل (على مسافة عشرة أيام من المدينة). ويلتبس الأمر إذا كانت هذه غزوة أو سرية، حيث ترد الأولى في «مغازي» الواقدي، والثانية في «غزوات» ابن سعد، ولكن الراجح، بل المؤكد ما جاء في الأخيرة، بدليل أن الواقدي نفسه روى عن وصول أنبار للرسول، بأن جمعًا من بلي وقضاعة قد تجمعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عمرو بن العاص وبعثه في سراة المهاجرين والأنصار.
ولعل دوافع اختياره له، ارتباطه بصلة قربى مع بلي، مما يعزز الرأي بأن الرسول كان لايزال يجد في قبائل التخوم مدخلاً إلى الشام، دابئًا على محاولة استئلافهم» – كما ورد في سيرة ابن هشام – أو على الأقل استثارة عصبيتهم العربية على حساب ولائهم البيزنطي.
في السنة الثامنة للهجرة، كانت سيادة المدينة تترسخ في الحجاز وعلى تخومه، فارضة نفسها قوة رئيسة في شبه جزيرة العرب، التي أخذت قبائلها، تدريجيًا، تتحلل من ارتباطاتها بقريش التي عانت عزلة بعد صلح الحديبية، ولم تعد تملك ما يكفي من مقومات الصمود. كذلك مكة لم تعد بحاجة إلى عملية عسكرية لتأكيد سقوطها، فقد تم اتفاق حينئذ بين كبير تجارها أبي سفيان، وبين المدينة من خلال الدور الذي تولاه في هذا الصدد، العباس عم الرسول، وكان قد أعلن إسلامه قبيل ذلك، ممهدًا للدخول السلمي إليها، فكانت الحملة التي قادها الرسول أشبه بتظاهرة للإسلام المنتصر على الوثنية. واختصّت مكة بمصطلح جديد هو «الفتح» أو «الفتح المبين» في السياق القرآني، بما يعنيه ذلك من حسم لمصلحة الإسلام في الحجاز.
ولكن مكة لم «تسقط»، حيث انبثقت منها الدعوة، وإليها ينتمي الرسول (صلى الله عليه وسلم) والمهاجرون، وفيها الكعبة، حيث أقام صرحها النبي إبراهيم، مبشرًا بعقيدته التوحيدية (الحنفية) التي انطلق من جذورها الإسلام، وإنما قريش الوثنية المعادية للرسول ودعوته، سقطت وزال نفوذها، إلا أن الرسول كان متسامحًا معها، واتخذ حاضرتها المركز الروحي للإسلام، فيما المدينة التي آزرته في الشدائد، كانت أكثر مواءمة لتكون المركز السياسي والإداري لدولته الصاعدة.
الحرب الأخيرة
وبفتح مكة دخل الإسلام في منعطف جديد، وكان توحيد القبائل العربية في إطاره ما شغل حينئذ الرسول (صلى الله عليه وسلم)، لاسيما تلك المقيمة في الشام، من دون أن يكون ذلك منفصلاً عن موقفه من البيزنطيين أسياد المنطقة. ولعل في مغازي الواقدي ما يشي بهذه الهواجس، إذ ورد في إحدى مروياته: «كانت أخبار الشام عند المسلمين كل يوم لكثرة من يقدم عليهم من الأنباط، فقدمت قادمة، فذكروا أن الروم جمعت جموعًا كبيرة بالشام، وأن «هرقل» قد رزق أصحابه لسنة، وأجلبت معه لخم وجذام وغسان وعاملة، وزحفوا وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء وعسكروا بها، وتخلف هرقل بحمص».
ولعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) في المقابل لم يكن في ذهنه إعلان الحرب على البيزنطيين، وإن كان هؤلاء في صميم مشروعه، ولكن عندما تكتمل الشروط لفتح هذه الجبهة الصعبة، مع العلم بأنه في الأدبيات المنسوبة له، كان واضحًا فيها أن الهدف المحوري، ليس فقط تحرير القبائل العربية من الهيمنة البيزنطية، وإنما تحرير الشام من هذه الأخيرة، وذلك بما يمهد لانتشار الإسلام، تعبيرًا عن طبيعة الدعوة في نطاقها العالمي. وإذا كان أحد لا يدرك حينئذ ما دار في خلد الرسول، فإن المرويات التاريخية ليست دائمًا مما يحسم مثل هذه المسألة، خصوصًا أنها تواترت شفاهًا لوقت طويل بعد غزوة تبوك، والمؤرخ من خلال شكوكه المشروعة، لا يرى حرجًا في النقد، مستندًا إلى مرجعية يتآزح فيها العقل مع الرواية في مقاربة الحقيقة التاريخية.
لعل البيزنطيين كعادتهم، استخدموا القبائل العربية لصد أي محاولة لاختراق مواقعهم في الشام، إلا أن الرسول وقد اتخذ قراره بصدد ما عرف بغزوة تبوك، بعد فترة تأمل دامت بضعة شهور، لم يتنه عنه ما تناهى إليه عن حشود للقبائل، أو حتى للبيزنطيين. خلافًا لذلك دعا إلى التعبئة العامة في المدينة، كما «بعث إلى قبائل العرب يستنفرهم» حسب رواية ابن سعد، مراعيًا التوقيت المناسب وذلك «في زمان من عسرة الناس وشدة الحر وجدب من البلاد»، وفقًا لما ورد في سيرة ابن هشام.
أما عن عديد الغزوة، فقد توافقت الروايات على أنه بلغ ثلاثين ألفًا وعشرة آلاف فرس، وفي ذلك دلالة على أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ربما كان متحسبًا لصدام مع البيزنطيين، وليس فقط لحشود القبائل في البلقاء. ولكن الأرقام لا تخلو عادة من مبالغات، متسائلين إذا كان في وسع المدينة تجنيد مثل هذه القوة الكبيرة، أو تملك القدرة على مواجهة القبائل والبيزنطيين معًا. بيد أنه من المؤكد أن الغزوة ضمت حشدًا كبيرًا من المسلمين، لا يُقاس عددًا بما حوته الحملات السابقة. وكان ذلك يحتاج إلى تمويل تصدى له عدد من الصحابة، ومنهم أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة بن عبيدالله من المهاجرين، وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة من الأنصار.
وليس ثمة شك أن التعبئة الواسعة للجهاد، قد أشاعت مناخًا استثار مواجد المسلمين واستفز حماستهم للتضحية، ليس بالمال فحسب، بل بالأنفس التواقة إلى الشهادة في موكب الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فهي غزوة عنوانها الجهاد بما للكلمة من خصوصية في الإسلام. فكان نداء الرسول: «قدّموا القرآن» يتصادى في الآذان، مؤكدًا على المنحى الرسالي للغزوة التي يمكن اعتبارها من هذا المنظور أول «الفتوح» في الإسلام.
والواقع أن الروايات لم تُشر إلى تفاصيل دقيقة عن مسيرة الحملة الكبيرة، سوى ما كان من توسع لدى الواقدي في أحداث أقرب إلى القصص التاريخي، كما لم تأت على ذكر أي تصد لها قبل بلوغ تبوك. وإذا كان من تفسير لذلك، فهذا يعني أنها لم تقترب من مواقع الخطر، وربما استهدفت مواقع قبائل غير متورطة مباشرة في الموقف البيزنطي، وهو ما سيتبين لاحقًا في المعاهدات التي أسفرت الغزوة عنها. ولعل المرويات افتقدت تفاصيل كافية عن مسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى تبوك، إذ كان التركيز على ما بعد نزوله في الأخيرة، كما لم تحدد – شأن السرايا والغزوات السالفة – توقيت وصوله، أو مجال حركته في المنطقة، سوى أنه أقام عشرين ليلة فيها، ما انفك خلالها، موجهًا ومرشدًا، وخطيبًا يتصادى كلامه مع اللحظة التاريخية: «إن أصدق الحديث كتاب الله وأوثق القول كلمة التقوى، وأشرف القتل قتل الشهادة..»، إلى آخر ما ورد في الخطاب – الوصية، متضمنًا أفكارًا قيمية عن المغزى الذي تمثله الحملة في بنيان حركة الإسلام. إلى ذلك، فقد أرسى نواة مسجد أقام الصلاة فيه، وقيل إن آيات من القرآن نزلت عليه في تبوك، وهي تحمل إشارات إلى التحريض على الجهاد والتحذير من المنافقين، ووضع المسلمين بين خياري الغنيمة (بمعنى النصر) والشهادة.
وكان الرسول أثناء مقامه في تبوك قد وجه خالد بن الوليد في أربعمائة فارس إلى دومة الجندل التي سبق لعبدالرحمن بن عوف أن قاد سرية إليها قبل سنوات ثلاث، إلا أن موقف ملكها المسالم حينذاك، أصبح مغايرًا أمام خالد، وما لبث أن خرج مقاتلاً من حصنه، ومعه أخ له يدعى حسان. ولكن لم يطل الوقت حتى استسلم، فيما قُتل أخوه بعد إصراره على الحرب.
وانتهى الأمر – حسب رواية ابن سعد – إلا أن خالدًا أجار الملك (أكيدر) «من القتل حتى يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن يفتح له دومة الجندل ففعل ذلك وصالحه».
وعلى الرغم من خضوع «الملك» وما قدمه من ضريبة باهظة للمسلمين، فإن ذلك لم يكن فتحًا حقيقيًا للحصن، ربما لأن الرسول لم يكن في خطته القيام بعمليات توسعية، في وقت كانت تنتشر من حوله تجمعات القبائل المعادية، فيما هرقل لايزال مرابطًا في حمص.
المصدر
موقع التاريخ