الحوار أكثر من القتال
ولعل الصلح مع دومة الجندل يؤشر إلى ما توخاه الرسول من غزوته التي بدا أنها ترمي إلى تحقيق مصالحات مماثلة، تؤمن له الاستقطاب، عبر الحوار أكثر من القتال، لعدد من القبائل، فإن لم تنخرط في دعوته، اكتنهت بعض قيمها، آخذًا في الاعتبار ما يجمعها من جذور مشتركة مع المسلمين. وفي ضوء ذلك كانت تبوك نقطة انطلاق إلى رؤساء القبائل العربية من حولها، حيث وجّه كتبه الداعية إلى نبذ عبادة الأصنام والانضواء في عقيدة قومهم. كما كان لنزوله في تبوك صدى لدى التجمعات القبلية القريبة منها، فما لبث أن قدم إليه يحنة بن رؤبة صاحب أيلة (على ساحل بحر القلزم)، فصالحه الرسول على أن يؤدي الجزية، وذلك مقابل عهد «بألا يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقًا يريدونه..» حسب رواية الواقدي.
وعلى نحو ما نهج عليه الرسول في دومة وأيلة، عقد صلحًا مع تيماء (على ثماني مراحل من المدينة)، وجرباء وأذرح (قريتان في الشام)، ومقنا (قرب أيلة)، وفاق عهد بالأمان على أنفسهم وتجاراتهم، مقابل الجزية، استنادًا إلى رواية الواقدي الذي توسع في تفاصيل هذه العهود، مضيفًا في هذا السياق أن «نفرًا من بني سعد قدموا على الرسول (في مقره)، وكانوا يعانون شح بئرهم وقد اشتد عليهم القيظ، فطلبوا أن يدعو لهم في بئرهم».
ولعل ما يمكن استخلاصه من ذلك، أحد أمرين: إما أن بني سعد كانوا على عقيدة الإسلام، وإما أنهم تأثروا بالأفكار التي تداعت إليهم خلال مقام الرسول في تبوك، وتواصله الحواري مع القبائل المنتشرة حول الأخيرة، مما يرجح بأن ثمة تغيرًا بدأ يسود المنطقة، أو على الأقل بدأت ترهص به، من خلال احتكاكها بالسرايا السالفة، حيث راكمت حضورًا ما للإسلام. فجاءت غزوة تبوك تعمق هذا الحضور لدى القبائل التخومية، المبهورة حينذاك بشخصية الرسول، وقد رأت فيه من سمو الخلق وارتقاء السلوك القيمي، ما لم تعهد مثلهما من قبل.
ولعل ما يمكن استنتاجه من هذه المعاهدات، أن الرسول بعد فتح مكة، أصبح في موقع المبادر الذي يُمسك بزمام التوقيت، فضلاً عن تعزيز قوته العسكرية، مقارنةً بما كانت عليه إبان سرية مؤتة، التي ظلت في هواجسه، وما برحت تستثيره ذكرياتها، لاسيما المتصلة بالشهداء الثلاثة الكبار الذين سقطوا على أرضها. ومن هذا المنظور كانت تبوك في صميم سياساته الشامية، التي عبّرت عنها سرية مؤتة بصورة غير مألوفة في السرايا ذات الأهداف المحدودة في هذا الاتجاه. وإذا كان الرسول قد تجنب الاقتراب من المنطقة التي انتهت إليها السرية السالفة، حيث احتشدت القبائل المعادية في البلقاء، فإن مؤتة لم تغب عن باله وهو في آخر أيامه، عندما جهّز «بعث أسامة» في السنة الحادية عشرة للهجرة، وأوصى الأخير، كما في مروية ابن سعد قائلا: «سر إلى موضع مقتل أبيك (زيد بن حارثة)، فأوطئهم الخيل، فقد ولّيتك هذا الجيش».
غزوة التحديات
والسؤال الآن، هل كانت تبوك ردة فعل على مؤتة، أو مجرد ثأر لشهدائها، كما يبدو في الوصية السالفة؟ وإن صح ذلك، فلا يتعدى جزءًا من الحقيقة وليس كلها، كما أن بعث أسامة لن يكون دقيقًا تقويمه، إلا في سياق المشروع السياسي التوسعي في اتجاه الشام. وما جاء في الوصية إنما يندرج في التحريض على المستوى الشخصي، بما يشكل دفعًا لهذا المشروع واستمرارًا له، كذلك رسالة لمن بعده، بإعطاء الأولوية للشام في سياسات خلفائه.
وهكذا، في غمرة التحولات على جبهة الحجاز وكانت غزوة تبوك استجابة لتحديات ما انفك الرسول منذ العام الهجري السادس، يخوض مواجهة معها. ولم يكن حينئذ ليغامر بذلك العدد الكبير من المسلمين، من دون رصد الأحوال في الشام، مختارًا الوقت والمكان المناسبين. ولذلك سلك طريقًا لا تأخذ به إلى صدام مسلح مع القبائل، أو مع البيزنطيين في تمركزهم البعيد، إذ قرأ جيدًا أبعاد المهمة التي كانت واضحة الهدف، وضوح النتائج التي انتهت إليها. وقد تكون القبائل، حتى المرابطة في البلقاء، تجنبت بدورها الصدام مع الغزوة، بعدما تصادى في وعيها شيء من فكر الإسلام، القادم من بيئة عربية، وربما وجدت فيها ذاتها المصادرة في ظل الحكم البيزنطي.
وقد لا نبتعد عن الحقيقة في قراءتنا لغزوة تبوك بأنها الإطلاقة الأولى لحركة الفتوح الشامية، إذ كانت الهالة التي أحطيت بها، وما أسفرت عنه من تداعيات إيجابية لدى بعض القبائل العربية، قد أرست تراثًا استلهمه الخليفة الأول وأصحابه، ممن شاركوا في الغزوة، متابعين المسيرة دون تهيّب وغير عابئين بمعادلة توازن القوى التي طالما اخترقوها في حروبهم الحجازية. ولا نجافي أيضًا الحقيقة، بأن هذه الغزوة، على الرغم من عدم احتكاكها بالبيزنطيين، فإنها أحدثت ثغرة في نظامهم على ساحة الشام، وعرقلت مشروع هرقل الجديد لغرض السيطرة المباشرة على الأخيرة، بعد اختراقها بجرأة الجبهة القبلية التي كان مطمئنًا إلى انخرطها في نفوذه.
ويبقى أن الإمبراطورية البيزنطية، وهي الأساس امتداد شرقي لإمبراطورية الرومان المتهاوية في الغرب، قد بدأ ينال منها الهرم، نتيجة الصراعات المتفاقمة على السلطة، ولم تنقذها هزيمة هرقل للفرس. وفي هذا الوقت كان الإسلام تترسخ جذوره «دولة» فتية، وقضية مضيئة في عقول المسلمين، وخيار النصر أو الشهادة يتبلور إيمانًا ويقينًا في نفوسهم. فلم يجدوا صعوبة في مطالع العهد الراشدي، في دحر البيزنطيين من الشام، بعد معارك مظفرة، سرعان ما ضوت إليها القبائل العربية، سواء المتعاهدة مع الرسول في تبوك، أو تلك المنتشرة في البلقاء والتي كانت هدفًا مباشرًا لبعث أسامة، وحالت وفاة الرسول دون تحقيق المهمة المعقودة عليها.
المصدر
موقع التاريخ