ترسخت الشورى أكثر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت آيات قرآنية تدعو المسلمين إلى التشاور وتؤكد على المشورة, بل سميت سورة قرآنية كاملة بسورة الشورى تأكيداً لهذا المبدأ وضرورته في حياة المسلمين, قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]. وأيضاً قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأمرهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الشورى:38].
وورد في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤكد الشورى, منها “ما ندم من استشار وما خاب من استخار”، و “ما هلك امرؤ من مشورة قط”، و “ما تشاور قوم إلا هدوا إلى أرشد أمرهم”، و “المستشار مؤتمن”. وروى سعيد بن المسيب عن على رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولم تمضى فيه منك سنة, قال “أجمعوا له العالمين أو قال العابدين من المؤمنين فافعلوا شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد”.
وورد أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من أراد أمراً فشاور فيه امرؤاً مسلماً وفقه الله لأرشد أموره”، وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير من باطنها, وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظاهرها”.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمارس الشورى بنفسه, فقد ورد عن أبى هريرة أنه قال “ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم”، فقد كانت سياسة النبي صلى الله عليه وسلم قائمة على أساس الشورى في القضايا التي ليس فيها وحى, ولم تكن هناك طريقة ثابتة للشورى بل كانت تطبيقاتها متنوعة بحسب الحادثة وأهميتها والظروف المحيطة بها, ونذكر صوراً من النهج النبوي في الشورى:
الأخذ برأي ومشورة من شخص واحد وربما شخصين أو أكثر ما دام الأمر لا يتعارض مع نص يوافق عليه الجميع ويحقق مصلحة عامة, وأمثلة ذلك كثيرة, فقبل معركة بدر اختار الرسول صلى الله عليه وسلم موقعاً ليكون للحرب مع المشركين ولكن حباب بن المنذر بن الجموح اعترض على هذا الاختيار بقوله “يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه, أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟”، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “بل هو الحرب والمكيدة”, فقال “يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل, فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لقد أشرت بالرأي”, فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ثم أمر بالقلب فغورت”.
بفضل الشورى والتزام النبي صلى الله عليه وسلم بها أصبح العامل الجغرافي لصالح المسلمين فكانت حركة المسلمين أثناء القتال أسهل وشئونهم الإدارية أفضل مما أدى إلى رفع معنوياتهم وساعد ذلك إلى إحراز النصر.
وأيضاً قبيل معركة بدر أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمشورة سعد بن معاذ حينما أشار قائلاً “يا نبي الله ألا نبني عريشاً لتكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقي عدونا, فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا, وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا, فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم, ولو ظنوا أنك تلقي حرباً ما تخلفوا عنك, يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك”، فأثني رسول الله خيراً ودعا له بخير, ثم بني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً وهو شبه خيمة يستظل بها ويراقب المعركة ويتخذها مقراً لقيادة المسلمين في القتال.
وحينما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم تحزب الأحزاب وخروجهم لقتال المسلمين في السنة الخامسة للهجرة استشار أصحابه فيما يفعل, فأشار سلمان الفارسي رضي الله عنه بالخندق وقال “يا رسول الله إنا كنا بأرض فارس إذا تخوفنا الخيل خندقنا علينا”, فأعجبهم ذلك وأحبوا الثبات في المدينة, وأمرهم رسول الله بالجد ووعدهم بالنصر إذا هم صبروا واتقوا وأمرهم بالطاعة.
وهكذا باتباع سياسة الشورى استطاع المسلمون الدفاع عن دولتهم والانتفاع من خبرات وتجارب الأمم الأخرى.
ونجد الشورى أيضاً بعد صلح الحديبية سنة 6هـ, إذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنحر والحلق والتحلل من الإحرام فلم يجبه رجل إلى ذلك إذ كانوا يرجون دخول مكة وزيارة البيت الحرام فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخل إلى أم سلمة مغضباً شديد الغضب, لكن أم سلمة أشارت عليه ألا يكتفي بالقول بل الأفضل أن يباشر هذا بنحر هديه أمامهم وعند ذلك سيقتدون به لأنهم سيوقنون أن قراره نهائي لا رجعة فيه, فقبل مشورة أم سلمة وقام بنحر هديه فسارع المسلمون إلى الاقتداء به وطاعته.
وهكذا نجد الشورى أنقذت المسلمين من الهلاك والفرقة والاختلاف, والأخذ بها من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعد المسلمين على طاعة أوامر رسول الله.
المصدر
موقع التاريخ