فضيلة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله آل باز – رحمه الله تعالى

مولده
ولد في ذي الحجة سنة 1335 هـ بمدينة الرياض, وكان بصيرا, ثم أصابه مرض في عينيه عام 1346 هـ وضعف بصره, ثم فقده عام 1355 هـ.

طلبه للعلم
حفظ القرآن الكريم قبل سن البلوغ, ثم جد في طلب العلم على العلماء في الرياض, ولما برز في العلوم الشرعية واللغة عين في القضاء عام 1357 هـ, ولم ينقطع عن طلب العلم حتى اليوم, حيث لازم البحث والتدريس ليل نهار, ولم تشغله المناصب عن ذلك مما جعله يزداد بصيرة ورسوخا في كثير من العلوم, وقد عني عناية خاصة بالحديث وعلومه حتى أصبح حكمه على الحديث من حيث الصحة والضعف محل اعتبار, وهي درجة قل أن يبلغها أحد, خاصة في هذا العصر, وظهر أثر ذلك على كتاباته وفتواه حيث كان يتخير من الأقوال ما يسنده الدليل.

آثاره
منذ تولى القضاء في مدينة الخرج عام 1357 هـ وهو ملازم للتدريس في حلقات منتظمة, ففي الخرج كانت حلقاته مستمرة أيام الأسبوع عدا يومي الثلاثاء والجمعة, ولديه طلاب متفرغون لطلب العلم.

في عام 1372 هـ انتقل إلى الرياض للتدريس في معهد الرياض العلمي, ثم في كلية الشريعة بعد إنشائها سنة 1373 هـ في علوم الفقه والحديث والتوحيد, إلى أن نقل نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1381 هـ, وقد أسس حلقة التدريس في الجامع الكبير بالرياض منذ انتقل إليها, ولا زالت هذه الحلقة مستمرة إلى يومنا هذا, وإن كانت في السنوات الأخيرة اقتصرت على بعض أيام الأسبوع بسبب كثرة الأعمال, ولازمها كثير من طلبة العلم, وأثناء وجوده بالمدينة المنورة من عام 1381 هـ نائبا لرئيس الجامعة ورئيسا لها من عام 1390 هـ إلى 1395 هـ عقد حلقة للتدريس في المسجد النبوي, ومن الملاحظ أنه إذا انتقل إلى غير مقر إقامته استمرت إقامة الحلقة في المكان الذي ينتقل إليه مثل الطائف أيام الصيف, وقد نفع الله بهذه الحلقات.

مؤلفاته
• مجموع فتاوى ومقالات متنوعة, صدر منه الآن ثلاثة أجزاء وقت تحرير هذه النبذة.
• الفوائد الجلية في المباحث الفرضية.
• التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة (توضيح المناسك).
• التحذير من البدع, ويشتمل على أربع مقالات مفيدة: (حكم الاحتفال بالمولد النبوي, وليلة الإسراء والمعارج, وليلة النصف من شعبان, وتكذيب الرؤيا المزعومة من خادم الحجرة النبوية المسمى: الشيخ أحمد).
• رسالتان موجزتان في الزكاة والصيام.
• العقيدة الصحيحة وما يضادها.
• وجوب العمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وكفر من أنكرها.
• الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة.
• وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه.
• حكم السفور والحجاب ونكاح الشغار.
• نقد القومية العربية.
• الجواب المفيد في حكم التصوير.
• الشيخ محمد بن عبد الوهاب, دعوته وسيرته.
• ثلاث رسائل في الصلاة: كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وجوب أداء الصلاة في جماعة، أين يضع المصلي يديه حين الرفع من الركوع؟
• حكم الإسلام فيمن طعن في القرآن أو في رسول الله صلى الله عليه وسلم .
• حاشية مفيدة على فتح الباري, وصل فيها إلى كتاب الحج.
• رسالة الأدلة النقلية والحسية على جريان الشمس وسكون الأرض وإمكان الصعود إلى الكواكب.
• إقامة البراهين على حكم من استغاث بغير الله أو صدق الكهنة والعرافين.
• الجهاد في سبيل الله.
• الدروس المهمة لعامة الأمة.
• فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة.
• وجوب لزوم السنة والحذر من البدعة.
• تحفة الأخيار ببيان جملة نافعة مما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة من الأدعية والأذكار.

ولم يقتصر نشاطه على ما ذكر فقد كان يلقي المحاضرات ويحضر الندوات العلمية ويعلق عليها ويعمر المجالس الخاصة والعامة التي يحضرها بالقراءة والتعليق بالإضافة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أصبح صفة ملازمة له. نفعنا الله بعلمه ووفقه لمزيد العلم النافع والعمل الصالح.

المصدر
موقع صيد الفوائد

أبو هريرة – رضى الله عنه

كان اسمه في الجاهلية عبد شمس، ولما أسلم سماه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن، ولقد كان عطوفا على الحيوان، وكانت له هرة، يرعاها ويطعمها وينظفها وتلازمه فدعي أبا هريرة.

نشأته وإسلامه
قدم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة سبع للهجرة وهو بخيبر وأسلم، ومنذ رأى الرسول الكريم لم يفارقه لحظة، وأصبح من العابدين الأوابين، يتناوب مع زوجته وابنته قيام الليل كله، فيقوم هو ثلثه، وتقوم زوجته ثلثه، وتقوم ابنته ثلثه، وهكذا لا تمر من الليل ساعة إلا وفي بيت أبي هريرة عبادة وذكر وصلاة.

إمارته للبحرين
عاش -رضي الله عنه- عابدا ومجاهدا، لا يتخلف عن غزوة ولا عن طاعة، وفي خلافة عمر -رضي الله عنه- ولاه إمارة البحرين، وكان عمر -رضي الله عنه- إذا ولى أحدا الخلافة راقب ماله، فإذا زاد ثراءه ساءله عنه وحاسبه، وهذا ما حدث مع أبي هريرة، فقد ادخر مالا حلالا له، وعلم عمر بذلك فأرسل في طلبه، يقول أبو هريرة: “قال لي عمر يا عدو الله، وعدو كتابه، أسرقت مال الله؟، قلت: ما أنا بعدو لله ولا عدو لكتابه لكني عدو من عاداهما، ولا أنا من يسرق مال الله. قال: فمن أين اجتمعت لك عشرة ألاف؟، قلت: خيل لي تناسلت، وعطايا تلاحقت. قال عمر: فادفعها إلى بيت مال المسلمين، ودفع أبو هريرة المال إلى عمر ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم اغفر لأمير المؤمنين. وبعد حين دعا عمر أبا هريرة، وعرض عليه الولاية من جديد، فأباها واعتذر عنها، وعندما سأله عمر عن السبب قال: حتى لا يشتم عرضي، ويؤخذ مالي، ويضرب ظهري. ثم قال: وأخاف أن أقضي بغير علم، وأقول بغير حلم”.

سرعة الحفظ وقوة الذاكرة
إن أبطال الحروب من الصحابة كثيرون، والفقهاء والدعاة والمعلمون كثيرون، ولكن كان هناك قلة من الكتاب، ولم يكونوا متفرغين لتدوين كل ما يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وعندما أسلم أبو هريرة لم يملك أرض يزرعها أو تجارة يتبعها، وإنما يملك موهبة تكمن في ذاكرته، فهو سريع الحفظ قوي الذاكرة، فعزم على تعويض ما فاته بأن يأخذ على عاتقه حفظ هذا التراث وينقله إلى الأجيال القادمة.
يقول رضي الله عنه: “إنكم لتقولون أكثر أبوهريرة في حديثه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتقولون أن المهاجرين الذين سبقوه إلى الاسلام لا يحدثون هذه الأحاديث، ألا إن أصحابي من المهاجرين كانت تشغلهم صفقاتهم بالسوق، وأن أصحابي من الأنصار كانت تشغلهم أرضهم، وإني كنت امرؤا مسكينا، أكثر مجالسة رسول الله، فأحضر إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حدثنا يوما فقال: “من يبسط رداءه حتى يفرغ من حديثي ثم يقبضه إليه فلا ينسى شيئا كان قد سمعه مني” فبسطت ثوبي فحدثني ثم ضممته إلي فوالله ما كنت نسيت شيئا سمعته منه، وأيم الله لولا أية في كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبدا، هي: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}” [البقرة 159].

وفاته
عندما كان يعوده المسلمين داعيين له بالشفاء، كان أبو هريرة شديد الشوق إلى لقاء الله ويقول: “اللهم إني أحب لقاءك، فأحب لقائي”, وعن ثماني وسبعين سنة مات في العام التاسع والخمسين للهجرة.

المصدر
طريق الإيمان

بلاد ما وراء النهر

بلاد ما وراء النهر أو ما يعرف الآن ببلاد وسط آسيا أو آسيا الوسطى، تعبير أطلقه الجغرافيون والمؤرخون المسلمون على المنطقة المحصورة بين نهري جيحون (آموداريا) في الجنوب، وسيحون (سرداريا) في الشمال، وسكانها من العنصر التركي الذي انحدر إليها من الشرق منذ القرن السادس الميلادي ، وكونوا لهم عدة ممالك مستقلة فيها ، وهي اليوم تضم خمس جمهوريات إسلامية كانت خاضعة للاتحاد السوفيتي، ثم مَنَّ الله عليهم فاستقلوا بعد انهياره، وهذا الجمهوريات هي الآن أوزبكستان وطاجيسكتان وقازاخستان وتركمانستان وقرغيزيا.

الأمويون وبلاد ما وراء النهر
تعد المرحلة الحاسمة لفتح بلاد ما وراء النهر جاءت على يد الفاتح البطل قتيبة بن مسلم الباهلي ، ففي غضون عشر سنوات (86- 96هـ) بسط السيادة الإسلامية على كل البلاد. وقد توالت إغارات الأتراك الشرقيين على بلاد ما وراء النهر حتى أخذوا يشكلون خطرا على الدولة الأموية التي تصدَّت لذلك الخطر بجرأة وجسارة، وقام الولاة الأمويون مثل : الجراح بن عبد الله الحكمي، وعبد الله بن معمر اليشكري، الذي تابع الغزو في الجزء الشمالي الشرقي من البلاد ونسب إليه أنه هم بغزو الصين نفسها.

وظلت الدولة الأموية والأتراك الشرقيون في صراع يتبادلون النصر والهزيمة حتى تغلبت كفة الدولة الأموية على يد الوالي الشجاع أسد بن عبد الله القسري (117- 121هـ) ونصر بن سيار (121- 129هـ) الذي حظي بمكانة في تاريخ الجهاد الإسلامي في تلك البلاد لا تقل عن مكانة قتيبة بن مسلم، فهو الذي حمى بلاد ما وراء النهر من خطر الأتراك الشرقيين.
وخلاصة القول: أن فتح بلاد ما وراء النهر وتثبيت ذلك الفتح وتهيئتها لقبول الإسلام، عقيدة وفكرا وثقافة وسلوكا يعتبر من أهم منجزات العصر الأموي.

العباسيون وبلاد ما وراء النهر
ظل الأمويون يخوضون معارك تثبيت الفتوحات الإسلامية في بلاد ما وراء النهر ، وحمايتها من خطر الأتراك الشرقيين إلى آخر أيامهم، فلما سقطت دولتهم سنة 132هـ وقامت الدولة العباسية واصلت- تلك الأخيرة- السياسية نفسها بل إن العباسيين واجهوا خطرا جديدا، وهو الخطر الصيني، فقد رنت الصين إلى السيطرة لا على الأتراك الشرقيين فحسب، بل على بلاد ما وراء النهر ذاتها.

ولم تكن الأطماع الصينية تقف عند حد السيطرة السياسية، وإنما كانت ترمي إلى الاستيلاء على طرق التجارة التي تعبرها القوافل من الشرق الأقصى إلى بلاد ما وراء النهر ثم إلى موانئ البحرين الأسود والأبيض المتوسط ثم إلى أوربا، وهذه المطامع الصينية جعلت الصدام مع الدولة العباسية أمرا محتما.

معركة طلاس
وبالفعل التقى الجيشان الصيني والعباسي في معركة طلاس سنة (134 هـ/ 752 م) والتي انتصر فيها الجيش العباسي انتصارا عظيما، كان أعظم الانتصارات العربية في وسط آسيا. وبعد هزيمتهم تراجع الصينيون، بل كان أثر الهزيمة شديدا عليهم إلى درجة أنهم تقاعسوا عن نصرة أمير أشروسنة عند ما استغاث بهم ضد المسلمين، وكان هذا يعني أن العباسيين قد نجحوا في إبعاد الصين عن المعركة.

وبات على الأتراك الشرقيين أن يواجهوا العرب معتمدين على أنفسهم وكان هذا فوق طاقتهم؛ لأن العباسيين أولوا المنطقة عناية كبيرة، وواصلوا جهودهم في صد العدوان إلى أن زال خطر الأتراك الشرقيين، وانتشر الأمن على الحدود، وارتفع شأن الحكومة الإسلامية في عيون الناس، مما مكّن للإسلام أن يمضي قدما في طريق الانتشار والنجاح.

السياسة العباسية في بلاد ما وراء النهر
وقد واكبت السياسة العباسية هذا التطور، وشجعت الأتراك على اعتناق الإسلام بالإكثار من استخدامهم في الإدارة بل في الجيش نفسه، والحق أن العباسيين اقتدوا في ذلك بالأمويين، الذين سبق أن استخدموا غير المسلمين في الجيش، فجاء العباسيون وتوسعوا في هذا المجال، فقد أنشأ الفضل بن يحيى البرمكي في عهد هارون الرشيد فرقة كبيرة في خراسان من الأتراك الغربيين، بلغ عدد أفرادها خمسين ألف مقاتل بعث منهم عشرين ألفا إلى بغداد ، وأطلق عليهم اسم الفرقة العباسية واشترك في قوات علي بن عيسي رجال من الصغد، وكان جيش طاهر بن الحسين يضم سبعمائة من الخوارزمية، والجديد في الأمر هنا هو استخدام الجنود الأتراك في بغداد نفسها.

كما استن الخليفة المأمون (198- 218هـ) سنَّة جديدة، حيث دعا كثيرين من زعماء الأتراك إلى الدخول في خدمته في بغداد ومنحهم الصلات والعطايا، وألحق كثيرا من فرسانهم بالحرس الخليفي.

وفي عهد الخليفة المعتصم (218- 277 هـ) وضح أن الإسلام قد تمكن في بلاد ما وراء النهر، ورسخت أقدامه، حتى أن الأتراك الغربيين أنفسهم قد أصبحوا مادة الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن الإسلام ونشره بين الأتراك الشرقيين، يقول البلاذري: “والمعتصم بالله جل شهود عسكره من جند أهل ما وراء النهر، من الصغد والفراغنة وأهل الشاش وغيرهم، وحضر ملوكهم ببابه، وغلب الإسلام على ما هناك، وصار أهل تلك البلاد يغزون من وراءهم من الترك ففتح مواضع لم يصل إليها أحد من قبله”

المصدر
موقع التاريخ

الأندلس كيف دخلها المسلمون وكيف خرجوا منها؟

كان أول توجه لجيش الفتح الإسلامي نحو الأندلس من أجل غزوها وفتحها سنة 91هـ، تحت قيادة طريف بن زرعة، ثم غزوها في العام التالي 92هـ ، تحت قيادة طارق بن زياد، وكان عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفاً، وتم الفتح العظيم، وانتشر المسلمون وجيشهم في قرطبة، وغرناطة، وطليطلة في الشمال، وأصبحت جميع الأرض الأندلسية خاضعة للمسلمين منذ ذلك التاريخ، وتعاقب على حكم الأندلس منذ ذلك الحين ستة عصور، وهي: عصر الولاة (95 – 138هـ) وعصر الدولة الأموية (138 – 422هـ) وعصر ملوك الطوائف (422 – 484هـ) وعصر المرابطين (484 – 540هـ) وعصر الموحدين (541 – 633هـ) وعصر دولة بني الأحمر (636 – 897هـ) .

شاءت حكمة الله تعالى أن ينتشر الإسلام في الأندلس، وتسعد به أجيال كثيرة أراد الله لهم الهداية والخير، وكان السبب في هذا بعد الله تعالى يعود إلى صقر قريش عبدالرحمن الداخل سنة 138هـ الذي ضبط الحكم فيها، وأعاد إليها النظام والوحدة، وأدارها بكل حكمة وقوة، مما أدى إلى استقرار الحكم فيها، لتكون بعد ذلك مدخلاً وسبباً في وصول الثقافة العربية الإسلامية إلى أوربا.

كما هو معلوم فقد تعاقب على حكم الأندلس الكثير من الأمراء والسلاطين، كان بعضهم قوياً، وبعضهم الآخر ضعيفاً، ومن السلاطين الأقوياء عبدالرحمن الناصر (300 – 350ه)، الذي يعرف بأنه الفاتح الثاني للأندلس، حيث استرد ما ضاع منها من الولايات، وبلغت قرطبة أوجها في عهده، ومنهم المنصور بن أبي عامر الذي أعاد فتحها مرة ثالثة، وأخضع القلاع المسيحية والمدن النصرانية لحكم الإسلام، وفتح برشلونة، ثم انفرط العقد من بعده، وقامت إمارات ودويلات، يغلب على معظم أمرائها الضعف والوهن، ويشغلهم اللهو، وبلغ عدد هذه الدويلات حولي (20) إمارة، توزعت على جميع الأندلس، ومنهم: بنو حمود، وبنو عباد، وبنو زيري، وبنو برزال، وبنو يحيى، وبنو جهور، وبنو ذي النون، وبنو هود، إلى غير ذلك، كل منهم استولت على ناحية منها.

اتفقت أهم قوى النصارى في ذلك الوقت وتوحدت دولة قشتالة وأراغون بعد زواج أميريهما فرديناند وإيزابلا، وكان نتيجة هذا الاتحاد أن توحيد القيادة، في الوقت الذي كانت قوة المسلمين في تشرذم، وقيادتهم في انقسام وتشتت، حيث ثار أبو عبدالله بن الأحمر على والده “أبي الحسن”، وتعاون مع المسيحيين على حرب والده، ثم على حرب عمه محمد الثاني المعروف بالزغل بعد موت أبيه، وبلغ به العداء لعمه أنه لما فتح فرديناند وأيزابلا مدينة مالقة الإسلامية أرسل إليهما أبو عبدالله بالتهاني، وأعطاهما عهداً إن هما استوليا على إمارة الزغل أن يسلم لهما غرناطة، فتم لهم ذلك عام 896هـ، وخرج الزغل إلى إفريقية، فطلب فرديناند من أبي عبدالله الوفاء بوعده، فتماطل وحاول الصمود، ولكن جيوش الصليبيين تقدمت إلى غرناطة مصممة على فتح آخر حصن للإسلام والمسلمين في إسبانيا. وتم لهم ذلك، فصالحهم أبو عبدالله، وخرج المسلمون من غرناطة في سنة 1492م في ذلة ومهانة. حيث بدأت محاكم التفتيش في التعذيب والقتل والنفي، وبدأت معاناة أهل الأندلس من المسلمين ومن اليهود، وكانوا يجبرونهم على التنصر أو الموت، وقد تمسك أهل الأندلس بالإسلام ورفضوا الاندماج مع المجتمع النصراني. ،وبقي المسلمون رغم هذا متمسكين بإسلامهم، يدافعون عنه بكل قوة.

ويمكن إجمال أهم تلك الأسباب في عدة نقاط منها: ما تمثل في ضعف العقيدة الإسلامية عند معظم السلاطين وأهل القرار، أو أصحاب المال والجاه فيهم، وانحرافهم عن منهج الإسلام الحق، ومولاتهم للنصارى، والتحالف معهم؛ فيمكن أن نقول – وبكل أسف – أن تاريخ العرب والمسلمين في الأندلس مليء بمثل هذه التحالفات المهينة، مخالفين في ذلك قول الله تعالى: (لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ في شَيْءٍ) [آل عمران: 28]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أَوثَقُ عُرَا الإيمان الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحبُّ في الله، والبغض في الله) ومن الأمثلة على تلك التحالفات ما فعله المعتمد بن عباد وغيره الذين كانوا يطلبون المساعدة من ملك قشتالة في حربه ضد أقاربه من أمراء الطوائف من أجل استئصالهم، بدل أن يتحد معهم ضد النصارى من أجل تحقيق مصلحة المسلمين وأهدافهم التي باتت مهددة في الأندلس.

ومن تلك الأسباب المهمة أيضاً الانغماس في الشهوات، والركون إلى الترف، وعدم توجيه طاقات الأمة نحو معالي الأمور والجهاد بأنواعه، في الوقت الذي كانوا يرون فيه العدو وهو يجمع طاقاته ويوحد صفوفه لحربهم والتخلص منهم، ويرى بعض المؤرخين أن الأندلسيين خاصة الشباب منهم ألقوا بأنفسهم في أحضان الترف والمجون، حتى ذهبت أخلاقهم، وماتت فيهم حمية الإسلام ومظاهر العزة والكرامة، واهتمت نساؤهم بمظاهر الزينة والتربج، ويكفي للوقوف على مقدار هذا الترف ما فعله المُعْتَمِد في القصة المشهورة مع إحدى زوجاته، التي اشتهت أن تمشي في الطين فأمر أن يخلط الطين بالمسك والزعفران، لتخوض فيه وتحقق شهوتها.

ومن تلك الأسباب إلغاء الخلافة الأموية وإعلان بداية قيام عهد الطوائف، الذين كان غالبهم ليس مؤهلا لقيادة الأمة الإسلامية والنهوض بها وإعادتها إلى ما كانت عليه فيما مضى، مما أدى إلى ضعف المسلمين ووصولهم إلى تلك الحالة من المهانة.

ومن تلك الأسباب وجود الفرقة والاختلاف بأنواعه بين المسلمين، حتى أصبح سمة من سمات عصر الطوائف، حتى كان بعضهم يضطر إلى عقد العهود مع النصارى ضد إخوانه وأقاربه من أجل السلطة، ولما سقطت طُلَيْطِلَة وقف بعض ملوك الطوائف صامتين عن نجدتها، وكأن الأمر لا يعنيهم، وتغافلوا عن أن ملك النصارى ألفونسو لا يفرِّق بين طليطلة وبين غيرها.

ومن الأسباب المهمة كذلك تخلي بعض علماء المسلمين أو معظمهم عن القيام بواجباتهم، ذلك أن الواجب الديني لا يقوم به إلا العلماء الربانيين، وكلَّما ابتعد العلماء عن الربَّانية تثاقلت نفوسهم، وازداد اهتامهم بمصالحهم الشخصية, وعدم الاهتمام بمصالح الأمة الحقيقية، كما هو الحال في أيامنا هذه، وهو ما يؤدي إلى ضعف الأمة، وتقهرقها، ثم هناك أمر آخر وهو عدم سماع ملوك الطوائف لنصائح العلماء الصادقين في ذلك الوقت، بل ومحاولة التضييق عليهم، كما هو حالنا هذه الأيام، فكانت نصائح العلماء لا تصادف أسماع السلاطين، حتى حلَّت بهم المصيبة، وهي سقوط طليطلة، وما بعدها.

ومن الأسباب التي أدت إلى ذهاب دولة المسلمين في الأندلس أن النصارى استطاعوا أن يتفقوا ويوحدوا كلمتهم ويضعوا البرامج والمخططات التي تقوم على الغدر والخيانة، بالتعاون مع بعض الخونة، من أجل القضاء على ملوك الطوائف ببث الفتنة بينهم، فهم كما قال الله تعالى: (لاَ يَرْقُبُونَ في مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) [التوبة: 14] حيث مارسوا كل الأساليب الممنوعة من أجل تحقيق أهدافهم كما هو معلوم في محاكم التفتيش. وكان من أكثر ملوك النصارى نشاطاً واهتماماً بهذا الأمر فرناندو ملك قشتالة.

المصدر
موقع التاريخ

تبوك آخر الغزوات وأول الفتوحات – الجزء الثالث

الحوار أكثر من القتال
ولعل الصلح مع دومة الجندل يؤشر إلى ما توخاه الرسول من غزوته التي بدا أنها ترمي إلى تحقيق مصالحات مماثلة، تؤمن له الاستقطاب، عبر الحوار أكثر من القتال، لعدد من القبائل، فإن لم تنخرط في دعوته، اكتنهت بعض قيمها، آخذًا في الاعتبار ما يجمعها من جذور مشتركة مع المسلمين. وفي ضوء ذلك كانت تبوك نقطة انطلاق إلى رؤساء القبائل العربية من حولها، حيث وجّه كتبه الداعية إلى نبذ عبادة الأصنام والانضواء في عقيدة قومهم. كما كان لنزوله في تبوك صدى لدى التجمعات القبلية القريبة منها، فما لبث أن قدم إليه يحنة بن رؤبة صاحب أيلة (على ساحل بحر القلزم)، فصالحه الرسول على أن يؤدي الجزية، وذلك مقابل عهد «بألا يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقًا يريدونه..» حسب رواية الواقدي.

وعلى نحو ما نهج عليه الرسول في دومة وأيلة، عقد صلحًا مع تيماء (على ثماني مراحل من المدينة)، وجرباء وأذرح (قريتان في الشام)، ومقنا (قرب أيلة)، وفاق عهد بالأمان على أنفسهم وتجاراتهم، مقابل الجزية، استنادًا إلى رواية الواقدي الذي توسع في تفاصيل هذه العهود، مضيفًا في هذا السياق أن «نفرًا من بني سعد قدموا على الرسول (في مقره)، وكانوا يعانون شح بئرهم وقد اشتد عليهم القيظ، فطلبوا أن يدعو لهم في بئرهم».

ولعل ما يمكن استخلاصه من ذلك، أحد أمرين: إما أن بني سعد كانوا على عقيدة الإسلام، وإما أنهم تأثروا بالأفكار التي تداعت إليهم خلال مقام الرسول في تبوك، وتواصله الحواري مع القبائل المنتشرة حول الأخيرة، مما يرجح بأن ثمة تغيرًا بدأ يسود المنطقة، أو على الأقل بدأت ترهص به، من خلال احتكاكها بالسرايا السالفة، حيث راكمت حضورًا ما للإسلام. فجاءت غزوة تبوك تعمق هذا الحضور لدى القبائل التخومية، المبهورة حينذاك بشخصية الرسول، وقد رأت فيه من سمو الخلق وارتقاء السلوك القيمي، ما لم تعهد مثلهما من قبل.

ولعل ما يمكن استنتاجه من هذه المعاهدات، أن الرسول بعد فتح مكة، أصبح في موقع المبادر الذي يُمسك بزمام التوقيت، فضلاً عن تعزيز قوته العسكرية، مقارنةً بما كانت عليه إبان سرية مؤتة، التي ظلت في هواجسه، وما برحت تستثيره ذكرياتها، لاسيما المتصلة بالشهداء الثلاثة الكبار الذين سقطوا على أرضها. ومن هذا المنظور كانت تبوك في صميم سياساته الشامية، التي عبّرت عنها سرية مؤتة بصورة غير مألوفة في السرايا ذات الأهداف المحدودة في هذا الاتجاه. وإذا كان الرسول قد تجنب الاقتراب من المنطقة التي انتهت إليها السرية السالفة، حيث احتشدت القبائل المعادية في البلقاء، فإن مؤتة لم تغب عن باله وهو في آخر أيامه، عندما جهّز «بعث أسامة» في السنة الحادية عشرة للهجرة، وأوصى الأخير، كما في مروية ابن سعد قائلا: «سر إلى موضع مقتل أبيك (زيد بن حارثة)، فأوطئهم الخيل، فقد ولّيتك هذا الجيش».

غزوة التحديات
والسؤال الآن، هل كانت تبوك ردة فعل على مؤتة، أو مجرد ثأر لشهدائها، كما يبدو في الوصية السالفة؟ وإن صح ذلك، فلا يتعدى جزءًا من الحقيقة وليس كلها، كما أن بعث أسامة لن يكون دقيقًا تقويمه، إلا في سياق المشروع السياسي التوسعي في اتجاه الشام. وما جاء في الوصية إنما يندرج في التحريض على المستوى الشخصي، بما يشكل دفعًا لهذا المشروع واستمرارًا له، كذلك رسالة لمن بعده، بإعطاء الأولوية للشام في سياسات خلفائه.

وهكذا، في غمرة التحولات على جبهة الحجاز وكانت غزوة تبوك استجابة لتحديات ما انفك الرسول منذ العام الهجري السادس، يخوض مواجهة معها. ولم يكن حينئذ ليغامر بذلك العدد الكبير من المسلمين، من دون رصد الأحوال في الشام، مختارًا الوقت والمكان المناسبين. ولذلك سلك طريقًا لا تأخذ به إلى صدام مسلح مع القبائل، أو مع البيزنطيين في تمركزهم البعيد، إذ قرأ جيدًا أبعاد المهمة التي كانت واضحة الهدف، وضوح النتائج التي انتهت إليها. وقد تكون القبائل، حتى المرابطة في البلقاء، تجنبت بدورها الصدام مع الغزوة، بعدما تصادى في وعيها شيء من فكر الإسلام، القادم من بيئة عربية، وربما وجدت فيها ذاتها المصادرة في ظل الحكم البيزنطي.

وقد لا نبتعد عن الحقيقة في قراءتنا لغزوة تبوك بأنها الإطلاقة الأولى لحركة الفتوح الشامية، إذ كانت الهالة التي أحطيت بها، وما أسفرت عنه من تداعيات إيجابية لدى بعض القبائل العربية، قد أرست تراثًا استلهمه الخليفة الأول وأصحابه، ممن شاركوا في الغزوة، متابعين المسيرة دون تهيّب وغير عابئين بمعادلة توازن القوى التي طالما اخترقوها في حروبهم الحجازية. ولا نجافي أيضًا الحقيقة، بأن هذه الغزوة، على الرغم من عدم احتكاكها بالبيزنطيين، فإنها أحدثت ثغرة في نظامهم على ساحة الشام، وعرقلت مشروع هرقل الجديد لغرض السيطرة المباشرة على الأخيرة، بعد اختراقها بجرأة الجبهة القبلية التي كان مطمئنًا إلى انخرطها في نفوذه.

ويبقى أن الإمبراطورية البيزنطية، وهي الأساس امتداد شرقي لإمبراطورية الرومان المتهاوية في الغرب، قد بدأ ينال منها الهرم، نتيجة الصراعات المتفاقمة على السلطة، ولم تنقذها هزيمة هرقل للفرس. وفي هذا الوقت كان الإسلام تترسخ جذوره «دولة» فتية، وقضية مضيئة في عقول المسلمين، وخيار النصر أو الشهادة يتبلور إيمانًا ويقينًا في نفوسهم. فلم يجدوا صعوبة في مطالع العهد الراشدي، في دحر البيزنطيين من الشام، بعد معارك مظفرة، سرعان ما ضوت إليها القبائل العربية، سواء المتعاهدة مع الرسول في تبوك، أو تلك المنتشرة في البلقاء والتي كانت هدفًا مباشرًا لبعث أسامة، وحالت وفاة الرسول دون تحقيق المهمة المعقودة عليها.

المصدر
موقع التاريخ

تبوك آخر الغزوات وأول الفتوحات – الجزء الثاني

سرية مؤتة
لعل نكبة المسلمين في ذات أطلاح، حدت بالرسول إلى تعديل خطته في هذا السياق، بتعزيز عديد السرايا الموجهة إلى أرض الشام. وهذا ما يتأكد في سرية مؤتة (السنة الثامنة) التي حشد لها ثلاثة آلاف مقاتل، وعلى رأسهم زيد بن حارثة قائدًا، ومعه جعفر بن أبي طالب، يحل مكانه إذا قُتل، وعبدالله بن رواحة، تئول إليه القيادة إذا ما قتل الثاني. وكان فيها أيضًا قائد أبلى لاحقًا في حروب الردة والفتوح وهو خالد بن الوليد. هذه السرية كان لها صدى واسع في أدبيات المسلمين، إذ هي تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية بعد غزوة تبوك.

ولكن بقدر ما كانت أهداف الأخيرة واضحة، كان اللبس، أو كثير منه، يحيط بالأولى، سواء في أهدافها أو تداعياتها، وربما طغى عليها برق القادة الثلاثة الذين استشهدوا في معركة مبهمة. وعلى الرغم من إنقاذ خالد بن الوليد السرية من هزيمة محققة، مُنسحبًا مع المقاتلين في الوقت المناسب، فقد رأى فيها الرسول (صلى الله عليه وسلم) انتصارًا، على الأقل، في ما حققته من اختراق لمنطقة بعيدة من أرض الشام. وبات لشدة منافحته عن هذه السرية، وكأنه من شهودها، مستبرًا أبعادًا وأهمية نتائجها، حتى إن بعض الإخباريين أدرجوها بين الغزوات التي اصطلح أن تكون بقيادته. وقد تبنى هذا التقييم ابن كثير في وصفه لسرية مؤتة، بأن «هذه الغزوة كانت إرهاصًا لما بعدها من غزو الروم وإرهابًا لأعداء رسول الله».

ومن هذا المنظور نكتنه المغزى البعيد لسرية مؤتة، في أنها لم تنعكس إحباطًا على المدينة أو تعثرًا لمشروع الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وإنما كانت الحافز للاستمرار في النهج، عندما انطلقت مباشرة بعدها حملة ذات السلاسل (على مسافة عشرة أيام من المدينة). ويلتبس الأمر إذا كانت هذه غزوة أو سرية، حيث ترد الأولى في «مغازي» الواقدي، والثانية في «غزوات» ابن سعد، ولكن الراجح، بل المؤكد ما جاء في الأخيرة، بدليل أن الواقدي نفسه روى عن وصول أنبار للرسول، بأن جمعًا من بلي وقضاعة قد تجمعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عمرو بن العاص وبعثه في سراة المهاجرين والأنصار.

ولعل دوافع اختياره له، ارتباطه بصلة قربى مع بلي، مما يعزز الرأي بأن الرسول كان لايزال يجد في قبائل التخوم مدخلاً إلى الشام، دابئًا على محاولة استئلافهم» – كما ورد في سيرة ابن هشام – أو على الأقل استثارة عصبيتهم العربية على حساب ولائهم البيزنطي.

في السنة الثامنة للهجرة، كانت سيادة المدينة تترسخ في الحجاز وعلى تخومه، فارضة نفسها قوة رئيسة في شبه جزيرة العرب، التي أخذت قبائلها، تدريجيًا، تتحلل من ارتباطاتها بقريش التي عانت عزلة بعد صلح الحديبية، ولم تعد تملك ما يكفي من مقومات الصمود. كذلك مكة لم تعد بحاجة إلى عملية عسكرية لتأكيد سقوطها، فقد تم اتفاق حينئذ بين كبير تجارها أبي سفيان، وبين المدينة من خلال الدور الذي تولاه في هذا الصدد، العباس عم الرسول، وكان قد أعلن إسلامه قبيل ذلك، ممهدًا للدخول السلمي إليها، فكانت الحملة التي قادها الرسول أشبه بتظاهرة للإسلام المنتصر على الوثنية. واختصّت مكة بمصطلح جديد هو «الفتح» أو «الفتح المبين» في السياق القرآني، بما يعنيه ذلك من حسم لمصلحة الإسلام في الحجاز.

ولكن مكة لم «تسقط»، حيث انبثقت منها الدعوة، وإليها ينتمي الرسول (صلى الله عليه وسلم) والمهاجرون، وفيها الكعبة، حيث أقام صرحها النبي إبراهيم، مبشرًا بعقيدته التوحيدية (الحنفية) التي انطلق من جذورها الإسلام، وإنما قريش الوثنية المعادية للرسول ودعوته، سقطت وزال نفوذها، إلا أن الرسول كان متسامحًا معها، واتخذ حاضرتها المركز الروحي للإسلام، فيما المدينة التي آزرته في الشدائد، كانت أكثر مواءمة لتكون المركز السياسي والإداري لدولته الصاعدة.

الحرب الأخيرة
وبفتح مكة دخل الإسلام في منعطف جديد، وكان توحيد القبائل العربية في إطاره ما شغل حينئذ الرسول (صلى الله عليه وسلم)، لاسيما تلك المقيمة في الشام، من دون أن يكون ذلك منفصلاً عن موقفه من البيزنطيين أسياد المنطقة. ولعل في مغازي الواقدي ما يشي بهذه الهواجس، إذ ورد في إحدى مروياته: «كانت أخبار الشام عند المسلمين كل يوم لكثرة من يقدم عليهم من الأنباط، فقدمت قادمة، فذكروا أن الروم جمعت جموعًا كبيرة بالشام، وأن «هرقل» قد رزق أصحابه لسنة، وأجلبت معه لخم وجذام وغسان وعاملة، وزحفوا وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء وعسكروا بها، وتخلف هرقل بحمص».

ولعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) في المقابل لم يكن في ذهنه إعلان الحرب على البيزنطيين، وإن كان هؤلاء في صميم مشروعه، ولكن عندما تكتمل الشروط لفتح هذه الجبهة الصعبة، مع العلم بأنه في الأدبيات المنسوبة له، كان واضحًا فيها أن الهدف المحوري، ليس فقط تحرير القبائل العربية من الهيمنة البيزنطية، وإنما تحرير الشام من هذه الأخيرة، وذلك بما يمهد لانتشار الإسلام، تعبيرًا عن طبيعة الدعوة في نطاقها العالمي. وإذا كان أحد لا يدرك حينئذ ما دار في خلد الرسول، فإن المرويات التاريخية ليست دائمًا مما يحسم مثل هذه المسألة، خصوصًا أنها تواترت شفاهًا لوقت طويل بعد غزوة تبوك، والمؤرخ من خلال شكوكه المشروعة، لا يرى حرجًا في النقد، مستندًا إلى مرجعية يتآزح فيها العقل مع الرواية في مقاربة الحقيقة التاريخية.
لعل البيزنطيين كعادتهم، استخدموا القبائل العربية لصد أي محاولة لاختراق مواقعهم في الشام، إلا أن الرسول وقد اتخذ قراره بصدد ما عرف بغزوة تبوك، بعد فترة تأمل دامت بضعة شهور، لم يتنه عنه ما تناهى إليه عن حشود للقبائل، أو حتى للبيزنطيين. خلافًا لذلك دعا إلى التعبئة العامة في المدينة، كما «بعث إلى قبائل العرب يستنفرهم» حسب رواية ابن سعد، مراعيًا التوقيت المناسب وذلك «في زمان من عسرة الناس وشدة الحر وجدب من البلاد»، وفقًا لما ورد في سيرة ابن هشام.

أما عن عديد الغزوة، فقد توافقت الروايات على أنه بلغ ثلاثين ألفًا وعشرة آلاف فرس، وفي ذلك دلالة على أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ربما كان متحسبًا لصدام مع البيزنطيين، وليس فقط لحشود القبائل في البلقاء. ولكن الأرقام لا تخلو عادة من مبالغات، متسائلين إذا كان في وسع المدينة تجنيد مثل هذه القوة الكبيرة، أو تملك القدرة على مواجهة القبائل والبيزنطيين معًا. بيد أنه من المؤكد أن الغزوة ضمت حشدًا كبيرًا من المسلمين، لا يُقاس عددًا بما حوته الحملات السابقة. وكان ذلك يحتاج إلى تمويل تصدى له عدد من الصحابة، ومنهم أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة بن عبيدالله من المهاجرين، وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة من الأنصار.
وليس ثمة شك أن التعبئة الواسعة للجهاد، قد أشاعت مناخًا استثار مواجد المسلمين واستفز حماستهم للتضحية، ليس بالمال فحسب، بل بالأنفس التواقة إلى الشهادة في موكب الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فهي غزوة عنوانها الجهاد بما للكلمة من خصوصية في الإسلام. فكان نداء الرسول: «قدّموا القرآن» يتصادى في الآذان، مؤكدًا على المنحى الرسالي للغزوة التي يمكن اعتبارها من هذا المنظور أول «الفتوح» في الإسلام.

والواقع أن الروايات لم تُشر إلى تفاصيل دقيقة عن مسيرة الحملة الكبيرة، سوى ما كان من توسع لدى الواقدي في أحداث أقرب إلى القصص التاريخي، كما لم تأت على ذكر أي تصد لها قبل بلوغ تبوك. وإذا كان من تفسير لذلك، فهذا يعني أنها لم تقترب من مواقع الخطر، وربما استهدفت مواقع قبائل غير متورطة مباشرة في الموقف البيزنطي، وهو ما سيتبين لاحقًا في المعاهدات التي أسفرت الغزوة عنها. ولعل المرويات افتقدت تفاصيل كافية عن مسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى تبوك، إذ كان التركيز على ما بعد نزوله في الأخيرة، كما لم تحدد – شأن السرايا والغزوات السالفة – توقيت وصوله، أو مجال حركته في المنطقة، سوى أنه أقام عشرين ليلة فيها، ما انفك خلالها، موجهًا ومرشدًا، وخطيبًا يتصادى كلامه مع اللحظة التاريخية: «إن أصدق الحديث كتاب الله وأوثق القول كلمة التقوى، وأشرف القتل قتل الشهادة..»، إلى آخر ما ورد في الخطاب – الوصية، متضمنًا أفكارًا قيمية عن المغزى الذي تمثله الحملة في بنيان حركة الإسلام. إلى ذلك، فقد أرسى نواة مسجد أقام الصلاة فيه، وقيل إن آيات من القرآن نزلت عليه في تبوك، وهي تحمل إشارات إلى التحريض على الجهاد والتحذير من المنافقين، ووضع المسلمين بين خياري الغنيمة (بمعنى النصر) والشهادة.

وكان الرسول أثناء مقامه في تبوك قد وجه خالد بن الوليد في أربعمائة فارس إلى دومة الجندل التي سبق لعبدالرحمن بن عوف أن قاد سرية إليها قبل سنوات ثلاث، إلا أن موقف ملكها المسالم حينذاك، أصبح مغايرًا أمام خالد، وما لبث أن خرج مقاتلاً من حصنه، ومعه أخ له يدعى حسان. ولكن لم يطل الوقت حتى استسلم، فيما قُتل أخوه بعد إصراره على الحرب.

وانتهى الأمر – حسب رواية ابن سعد – إلا أن خالدًا أجار الملك (أكيدر) «من القتل حتى يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن يفتح له دومة الجندل ففعل ذلك وصالحه».

وعلى الرغم من خضوع «الملك» وما قدمه من ضريبة باهظة للمسلمين، فإن ذلك لم يكن فتحًا حقيقيًا للحصن، ربما لأن الرسول لم يكن في خطته القيام بعمليات توسعية، في وقت كانت تنتشر من حوله تجمعات القبائل المعادية، فيما هرقل لايزال مرابطًا في حمص.

المصدر
موقع التاريخ

تبوك آخر الغزوات وأول الفتوحات – الجزء الأول

كانت الشام خاضعة للبيزنطيين، أو الروم في الأدبيات العربية. ومنذ وقت غير محدد نزلت فيها مجموعات قبلية، في سياق الهجرات القادمة من اليمن، بعد اختلال أوضاعه السياسية والاقتصادية، مثل جذام ولخم وبلقين وبهراء وبلّي، فضلاً عن الأزد التي تحدر منها الغساسنة الأقوى حضورًا في الشام، بعدما اتخذهم البيزنطيون «حاجزًا» بينهم وبين مناطق النفوذ الفارسي إلى جانب التصدي للغزوات القبلية من الجنوب.

في هذا الوقت، كانت مكة وسط مثلث تجاري، شكلت عقدة مواصلاته ما بين الشام واليمن والعراق. ولكن مع ضمور دور الأخير بعد السيطرة المباشرة للفرس على الحيرة (المناذرة)، واستبدالهم ببني لخم أمراء الأخيرة، أميرًا من طيء، ومن قبل توغل الأحباش في اليمن حتى مكة التي صدوا عنها في عام الفيل (570م) اهتزت حينئذ منظومة «الإيلاف» بما فيها رحلتا الشتاء والصيف إلى اليمن والشام، لتصبح الأخيرة محور التجارة القرشية، وطريقها، الشريان الحيوي لقوافلها. ولذلك، فإن السرايا الأولى التي بثها الرسول حول المدينة، كان الهدف منها إرباك حركة قريش على هذه الطريق وتهديد أمنها التجاري، لاسيما بعد معركة بدر، المؤشر الأول في هذا الاتجاه.

حصار مكة
ولعل «حصار» مكة، رهصت به هذه العمليات التي بدأت استطلاعية، وتطورت إلى أن يتسع مدار حركتها، في محاولة اختراق الأطراف الجنوبية للشام، مهددة قريش في صميم حياتها الاقتصادية. ويمكن أن نضيف أيضًا، أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) الذي تعرّف الشام صبيًا، وقصدها تاجرًا وهو شاب في إحدى رحلات الصيف، كان يعي أهمية هذه المنطقة في مشروعه الرامي إلى إضعاف قريش، عدا تطلعاته البعيدة إلى السيطرة على الشام، مما يفسر كتابه إلى هرقل، بعد شعوره بأن الحسم بات وشيكًا في الحجاز، مع علمه بأن مثل هذا «الكتاب» لن يغيّر في معتقد الإمبراطور، المنتصر لتوه على الفرس في حرب شبه صليبية.

ولكن دلالته كانت واضحة في تحذيره – كما جاء في الكتاب – من الإساءة لـ «الأكاريين» العرب، كما كانت واضحة في الحملات التي اقتحمت بجرأة مناطق نفوذه، مما لم يحدث بهذه الوتيرة في السرايا على الجبهات الأخرى.

كانت «حسمى»، السرية الأولى – حسب الواقدي – نحو الشمال، في السنة السادسة للهجرة، وهي – استناداً إلى ياقوت – أرض ببادية الشام. أما أسبابها المباشرة فتعود إلى أن دحية بن خليفة الكلبي، موفد الرسول إلى القيصر البيزنطي، «لقيه ناس من جذام فقطعوا عليه الطريق» (الواقدي). على الرغم من وصوله سالمًا إلى المدينة، فقد انتدب الرسول (صلى الله عليه وسلم) زيد بن حارثة على رأس سرية من خمسمائة رجل، وهي أول سرية تضم مثل هذا العدد من المسلمين، وكانت بمنزلة رسالة إلى القبائل العربية الموالية للبيزنطيين. فأغاروا على جذام وسبوا عددًا كبيرًا منهم وأصابوا غنائم وفيرة، مما حدا بزيد بن رفاعة الجذامي إلى القدوم على المدينة شاكيًا للرسول (صلى الله عليه وسلم) ما حل بقبيلته، فبعث معه عليًا إلى قائد السرية، ناقلاً إليه الأمر «بأن يخلي بينهم وبين حرمهم وأموالهم»، حسب رواية ابن سعد.
وكانت هذه السرية قد نجم عنها أول احتكاك بقبائل الشام، مؤدية غرضها في التواصل المباشر معها، والذي تمثل خصوصًا في قدوم رئيس جذام إلى المدينة، وما لقيه من تسامح لدى الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ترك تأثيرًا في نفسه، ما سيتبين لاحقا في موقف قبيلته الإيجابي إبان غزوة تبوك.

إلى دومة الجندل
وفي السنة عينها (السادسة للهجرة)، انطلقت السرية الثانية إلى دومة الجندل، وهي – كما حددها ياقوت – «حصن بين الشام والمدينة». وتعرف بحصن أكيدر «الملك» الذي ينتهي نسبًا إلى كندة. وعهد الرسول بقيادتها إلى عبدالرحمن بن عوف، فدخلها ومكث فيها أيامًا ثلاثة، حسب رواية الواقدي، يدعو أهلها إلى الإسلام، وقيل إن رئيس «كلب» في دومة، الأصبع بن عمرو استجاب لدعوته، مما يعني – إن صح ذلك – أن هذه السرية غرست بذرة الإسلام في الشام، لاسيما أن «كلبًا» التي ربما تقاسمت النفوذ مع كندة في دومة، أو أنها حلت مكان الأخيرة، تصاعد نفوذها في المنطقة، وإن لم يصل إلى مستوى غسان الأردية، ممهدًا ذلك إلى حملات أكثر أهمية إلهيًا. ولكن يبدو أن «كلبًا» التي ظلت على عقيدتها النصرانية حتى قيام خلافة بني أمية، لم يكن انخراطها جديًا حينذاك في حركة الإسلام، وإن تعاطفت معه بدافع من جذورها العربية. وقد عزز هذه العلاقة، إصهار القبيلة لعبدالرحمن بن عوف، مؤسسة لمصاهرات أخرى كان أشهرها زواج معاوية من ميسون بنت بحدل الكلبي فيما بعد.

وكانت هذه القبيلة (كلب) قد حققت نجاحات في توسيع نفوذها الشامي، خلال الحرب بين الفرس والبيزنطيين في مطالع القرن السابع الميلادي، وتقلص نفوذ بني غسان في أعقابها، لتصبح الأكثر استقطابًا حين طرق الإسلام أبواب الشام في العهد الراشدي.

والسرية الثالثة في هذا السياق الزمني كانت أم قرفة، وقد عرفت بذلك نسبة إلى امرأة حملت هذا الاسم، وهي فاطمة بنت ربيعة بن زيد التي أُسرت خلال هذه السرية، وبدا أن الرسول حينئذ اتخذ مبادرة إلى استخدام طريق الشام لأغراض اقتصادية، وذلك مع «خروج زيد بن حارثة في تجارة إلى الشام ومعه بضائع لأصحاب النبي» حسب رواية الواقدي.

ولكن السرية تعثرت قبل بلوغها وادي القرى، حيث تعرض قائدها لاعتداء من بني فزارة.
والرابعة كانت سرية «ذات أطلاح»، وفي شأنها يقول الواقدي: «بعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلا حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من أرض الشام».

وكان ذلك في السنة الثامنة للهجرة التي ستشهد تطورات مثيرة في مسيرة الإسلام، ولكن هذه السرية، كما يبدو من حجمها، لم تكن مؤهلة لعملية حربية، بقدر ما كانت حملة استطلاعية، لوصل ما انقطع من تحركات على هذه الجبهة نحو عامين بعد سرية أم قرفة.

المصدر
موقع التاريخ

غزوة بدر الكبرى (يوم الفرقان) الجزء الثاني

اندلاع غزوة بدر
كان أول وقود المعركة (غزوة بدر) الأسود بن عبد الأسد المخزومي التي وردت بعض الآثار أنه أول من يأخذ كتابه بشماله يوم القيامة وكان رجلاً شرسًا سيئ الخلق أراد أن يشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم فقتله حمزة بن عبد المطلب قبل أن يشرب منه، ثم خرج ثلاثة من فرسان قريش هم عتبة وولده الوليد وأخوه شيبة وطلبوا المبارزة، فخرج ثلاثة من الأنصار فرفضوهم، وطلبوا مبارزة ثلاثة من المهاجرين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث و حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وكانوا أقرب الناس للنبي صلى الله عليه وسلم واستطاع المسلمون قتل الكافرين.

استشاط الكافرون غضبًا لمقتل فرسانهم وقادتهم فهجموا على المسلمين هجمة رجل واحد ودارت رحى حرب طاحنة في أول صدام بين الحق والباطل وبين جند الرحمن بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجند الشيطان بقيادة فرعون الأمة أبو جهل، والرسول صلى الله عليه وسلم قائم يناشد ربه ويتضرع ويدعو ويبتهل، وقال: “اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم”،وبالغ الاجتهاد والتضرع حتى سقط رداؤه عن منكبيه.

أغفى رسول الله إغفاءة واحدة ثم رفع رأسه، فقال: “أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع”، فلقد جاء المدد الإلهي ألف من الملائكة يقودهم جبريل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب العريش وهو يثب في الدرع ويقول: “سيهزم الجمع ويولون الدبر”، ثم أخذ حفنة من الحصى فاستقبل بها قريشً، وقال: “شاهت الوجوه!”، ورمى بها في وجوههم فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه.

مواقف خالدة
قام الرسول صلى الله عليه وسلم يحرض المسلمين على القتال، فقال لهم: “والذي نفسي بيده لا يقاتلنهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة، قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض”، فقال عمير بن الحمام : “لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة”، فرمى بما كان معهمن التمر ثم قاتلهم حتى قُتل رحمه الله.

سأل عوف بن الحارث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده؟”، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “غمسه يده في العدو حاسرًا”،فنزع عوف درعًا كانت عليه، ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قتل.

جاء غلامان صغيران هما معاذ بن عمرو ومعوذ بن عفراء، وظلا طوال القتال يبحثان عن أبي جهل لأنهما أقسما أن يقتلاه؛ لأنه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالفعل وصلا إليه حتى قتلاه، وقام ابن مسعود بحز رأسه وحملها للنبي صلى الله عليه وسلم الذي قال عندما رآها: “الله أكبر والحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، هذا فرعون هذه الأمة”.
ضرب لصحابة أروع الأمثلة في الاستعلاء بإيمانهم وعقيدتهم، وبينوا لنا كيف تكون عقيدة الولاء والبراء، فلقد قتل أبو عبيدة بن الجراح أباه وقتل عمر بن الخطاب خاله وهمَّ أبو بكر أن يقتل ولده عبد الرحمن، وأخذ أبو عزيز أسيرًا في المعركة، فأمر أخوه مصعب بن عمير بشد وثاقه وطلب فدية عظيمة فيه.

نهاية غزوة بدر
استمرت المعركة الهائلة والملائكة تقتل وتأسر من المشركين، والمسلمون يضربون أروع الأمثلة في الجهاد في سبيل الله والدفاع عن دينهم ورسولهم حتى انتهت المعركة بفوز ساحق للمسلمين بسبعين قتيلاً وسبعين أسيرًا، ومصرع قادة الكفر من قريش، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بطرح جيف المشركين في قليب خبيث في بدر، ثم أخذ يكلمهم: “بئس العشيرة كنتم لنبيكم؛ كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس”، ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قلب بدر.

ونزل خبر هزيمة المشركين في غزوة بدر كالصاعقة على أهل مكة، حتى إنهم منعوا النياحة على القتلى؛ لئلا يشمت بهم المسلمون، فحين جاءت البشرى لأهل المدينة فعمتها البهجة والسرور، واهتزت أرجاؤها تهليلاً وتكبيرًا، وكان فتحًا مبينًا ويومًا فرق الله به بين الحق والباطل.

المصدر
موقع التاريخ

غزوة بدر الكبرى (يوم الفرقان) الجزء الأول

عندما هاجر الرسول والمسلمون إلى المدينة شرعوا في تكوين دولتهم الوليدة وسط مخاطر كثيرة وتهديدات متواصلة من قوى الكفر والطغيان في قريش التي ألبت العرب كلهم على المسلمين في المدينة، وفي هذه الظروف الخطيرة أنزل الله تعالى الإذن بالقتال للمسلمين لإزاحة الباطل وإقامة شعائر الإسلام.

واتبع الرسول صلى الله عليه وسلم سياسة حكيمة في القتال تقوم أساسًا على إضعاف القوة الاقتصادية لقريش بالإغارة على القوافل التجارية المتجهة للشام، وبالفعل انطلقت شرارة السرايا بسرية سيف البحر في رمضان 1هـ بقيادة حمزة بن عبد المطلب وتوالت السرايا والتي اشترك في بعضها الرسول بنفسه، مثل: الأبواء وبواط، حتى كانت غزوة ذي العشيرة عندما جاءت الأخبار للرسول بأن عيرًا لقريش يقودها أبو سفيان بن حرب قد خرجت إلى الشام فخرج يطلبها ففاتته إلى الشام فرجع المدينة وهو ينتظر عودتها من الشام ليأخذها.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعتمد على سياسة بث العيون وسلاح الاستخبارات لنقل الأخبار بحركة القوافل التجارية وقد نقلت له العيون بأن القافلة راجعة من الشام محملة بثروات هائلة تقدر بألف بعير فندب الرسول الناس للخروج لأخذ هذه القافلة فتكون ضربة قاصمة لقريش ولم يعزم على أحد فاجتمع عنده ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً معظمهم من الأنصار،ويقال: إن هذا العدد هو عدد جند طالوت الذين عبروا معه النهر ولم يشربوا منها لمذكورة قصتهم في سورة البقرة، ولم يكن سوى فارسين الزبير والمقداد والباقي مشا هو كل ثلاثة يتعاقبون على بعير واحد وخرجوا وهم يظنون أنهم لا يلقون حربًا كبيرة وأرسل الرسول رجلين من الصحابة يتجسسان له أخبار القافلة.

الخبر يصل إلى قريش
كان أبو سفيان قائد القافلة في غاية الذكاء والحيطة والحذر وكان يتحسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان حتى عرف بخروج الرسول والصحابة لأخذ القافلة فاستأجر رجلاً اسمه ضمضم بن عمرو الغفاري وكلفه بالذهاب إلى قريش ليستنفرها لنجدتهم، وفي هذا الوقت كانت عاتكة بنت عبد المطلب عمة النبي قد رأت رؤيا بهذا المعنى وانتشر خبرها في قريش وسخر منها الناس، على رأسهم أبو جهل لعنه الله، ولكن سرعان ما بان تأويل الرؤيا وعرفت قريش بحقيقة الخبر فثاروا جميعًا وأسرعوا للإعداد لحرب المسلمين،وخرج من كل قبائل العرب رجال سوى قبيلة بني عدي حتى بلغ الجيش المكي ألف وثلاثمائة ومعهم مائة فارس وستمائة درع، ولما أجمعوا على المسير خافوا من غدر قبائل بني بكر وكانت بينهما عداوة وحرب، فتبدى لهم إبليس لعنه الله في صورة سراقة بن مالك سيد بني كنانة وقال لهم: “أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه”.

العير تفلت
استخدم أبو سفيان ذكائه وحذره الشديد حتى استطاع أن يعرف موقع جيش المسلمين بـ بدر ويحول هو خط سير القافلة نحو الساحل غربًا تاركًا الطريق الرئيسي الذي يمر ببدر على اليسار،وبهذا نجا بالقافلة وأرسل رسالة للجيش المكي بهذا المعنى، فهمّ الجيش بالرجوع ولكن فرعون هذه الأمة أبو جهل صدهم عن ذلك، ولكن قبيلة بني زهرة بقيادة الأخنس بن شريق عصوه ورجعوا ولم يشهدوا غزوة بدر.

المجلس الاستشاري
لم يكن يظن المسلمون أن سير الحرب سيتحول من إغارة على قافلة بحراسة صغيرة إلى صدام مع جيش كبير مسلح يقدر بثلاثة أضعاف جيشهم، فعقد الرسول صلى الله عليه وسلم مجلسًا استشاريًّا مع أصحابه ليعرف استعدادهم لمواصلة الحرب المقبلة، وعرض عليهم مستجدات الأمر، وشاورهم في القضية، فقام أبو بكر وعمر والمقداد فتكلموا وأحسنوا، وبينوا أنهم لا يتخلفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدًا، ولا يعصون له أمرًا، فأعاد الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر، وقال: “أشيرواعليّ أيها الناس”.

وكان يريد بذلك الأنصار ليتعرف استعدادهم لذلك، فقال سعد بن معاذ: “والله لكأنك تريدنا يا رسول الله!” قال: “أجل”،قال: “فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة؛ فامض يا رسول الله لما أردت؛ فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوًّا غدًا، وإنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء، ولعل الله يريك مناما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله”، فسُرّ الرسول صلى الله عليه وسلم بما قاله المهاجرين والأنصار، وقال: “سيرواوأبشروا؛ فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين”.

قبل غزوة بدر
تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم واختار مكانًا للقتال أشار الحباب بن المنذر بتعديله ليسهل على المسلمين التحكم في مصدر المياه، وإن كانت هذه الرواية ضعيفة إلا إنها منتشرة بأسانيد كثيرة في كتب السيرة والتاريخ.

الصحابة يأسرون غلامين من جيش قريش، والرسول صلى الله عليه وسلم يستجوبهما ليعرف عدد الجيش ومن على رأسه فيتضح أن الجيش قرابة الألف، على رأسه سادة قريش وكبرائها.
عندما نزل المسلمون في مقرهم اقترح سعد بن معاذ بناء مقر لقيادة النبي صلى الله عليه وسلم استعدادًا للطوارئ؛ فبنى المسلمون عريشًا للنبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه في العريش لحراسته أبو بكر الصديق لذلك كان علي بن أبي طالب يقول: “أبو بكر أشجع الناس على الإطلاق بعد النبي صلى الله عليه وسلم”، وأقام سعد بن معاذ كتيبة لحراسة العريش مقر القيادة.

قضى الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة في الصلاة والدعاء والتبتل والتضرع لله وقد عبأ جيشه ومشى في أرض المعركة وهو يقول: “هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان إن شاء الله غدًا”، وقد استبشر الناس بالنصر.

أما الجيش المكي فقد وقع في صفهم انشقاق بدأ عندما طلبوا من عمير بن وهب الجمحي أن يدور دورة حول المعسكر الإسلامي ليقدر تعداده، فدار دورة واسعة أبعد فيها ليتأكد من عدم وجود كمائن للجيش الإسلامي، ثم عاد فقال لهم: “عددهم ثلاثمائة رجل، ولكني رأيت يا معشر قريش المطايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم؛ فوالله ما أرى أن يُقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم”.

وهنا دبَّ الرعب في قلوب الكافرين وقامت حركة معارضة بقيادة حكيم بن حزام الذي أقنع عتبة بن ربيعة أن يتحمل دية عمرو بن الحضرمي المقتول في سرية نخلة رجب 2هـ، ولكن فرعون الأمة الذي كان يسعى لحتفه بظلفه أفسد هذه المعارضة، وأثار حفائظ عامر بن الحضرمي، فقال: “هذا حليفك، أي عتبة، يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك”، فقام عامر وكشف عن استه، وصرخ قائلاً:”واعمراه واعمراه”، فحمي الناس وصعب أمرهم واستوثقوا على ما هم عليه من الشر”.

المصدر
موقع التاريخ

الشورى في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه – الجزء الخامس

سمع عمر بن الخطاب تجمع الفرس لقتال المسلمين قبل معركة القادسية سنة 14هـ، فخرج رضي الله عنه خرج في أول يوم من المحرم من سنة أربعة عشر نزل على ماء يدعى صرار فعسكر به ولا يدري الناس ما يريد أيسير أم يقيم, وكانوا إذا أرادوا أن يسألوه عن شيء رموه بعثمان أو بعبد الرحمن بن عوف, وكان عثمان يدعى في زمان عمر رديفاً, وكانوا إذا لم يقدر هذان على شيء مما يريدون ثلثوا بالعباس.

قال عثمان لعمر ما بلغك؟ ما الذي تريد؟ فنادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس فأخبرهم الخبر الذي اقتصصناه في ذكر ما هيج أمر القادسية من اجتماع الناس على يزدجرد وقصد فارس أهلاك العرب, فقال العامة سر وسر بنا, فقال استعدوا فإني سائر إلى أن يجيء رأي هو أمثل من هذا, ثم بعث إلى أصحاب الرأي فاجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلام العرب فقال احضرونى الرأي فاجتمع ملؤهم على أن يبعث رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقيم ويرميه بالجنود.

فقال له عبد الرحمن أقم وابعث جنداً فليس انهزام جندك كهزيمتك. فنادي عمر الصلاة جامعة فاجتمع الناس إليه فقام في الناس فقال إن الله عز وجل قد جمع على الإسلام أهله فألف بين القلوب وجعلهم فيه إخوانا, والمسلمون كالجسد الواحد لا يخلو منه شيء من شيء أصاب غيره, وكذلك يحق للمسلمين أن يكونوا وأمرهم شورى بينهم من ذوى الرأي منهم, فالناس تبع لمن قام بهذا الأمر, تبع لأولى رأيهم ما رأوا لهم ورضوا به لهم من مكيدة في حرب كانوا فيه تبع لهم, يا أيها الناس, إني إنما كنت كرجل منكم حتى صرفني ذوى الرأي منكم عن الخروج, فقد رأيت أن أقيم وابعث رجلاً وقد أحضرت هذا الأمر من قدمت ومن خلفت. فقال عمر من ترونه, فقال سعد بن مالك الزهري فاستجاد قوله وأرسل أي سعد فأمره على العراق.

فترى أن الخليفة عمر بن الخطاب عدل عن رأيه ورأي عامة الناس إلى رأي أهل المشورة والخبرة من كبار الصحابة سواء في إقامته وبعث أحد الصحابة أو في اختيار الصحابي الذي يتولى القيادة في هذه المعركة الكبيرة.

يتكرر هذا مرة أخرى سنة 19هـ قبل معركة نهاوند وقد كانت عظماء الأعاجم من أهل قومس وأهل الري وأهل نهاوند قد تكاتبوا وتعاهدوا على أن يخرجوا من بلادهم وأن يغزوهم فبلغ ذلك أهل الكوفة ففزعوا بذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فلما قدموا إليه نادى في الناس إلى صلاة جامعة فاجتمع الناس, ثم صعد المنبر فقال أيها الناس, إن الشيطان قد جمع جموعاً فأقبل بها ليطفئوا نور الله إلا أن أهل قومس وأهل الري وأهل همذان وأهل نهاوند قد تعاهدوا على أن يخرجوا العرب من بلادهم ويغزوكم في بلادكم, فأشيروا على.

فقام طلحة فقال أنت ولي هذا الأمر, وقد أحكمت التجارب فادعنا نجب وأمرنا نطع فأنت مبارك الأمر ميمون النقيبة, ثم جلس فقال عمر تكلموا فقام عثمان فقال: أرى أن تكتب إلى أهل الشام فيسيرون من شامهم وتكتب إلى أهل اليمن فيسيرون من يمنهم وتسير أنت بنفسك من هذين الحرمين إلى هذين المصرين من أهل الكوفة والبصرة فتلقي جموع المشركين في جموع المسلمين, ثم قام علي بن أبي طالب فقال: إنك إن أشخصت أهل اليمن سارت الحبشة إلى ذراريهم, وإنك إن شخصت من هذين الحرمين انتفضت عليك الأرض من أقطارها حتى تكون ما تخلف خلفك من العورات أهم إليك مما بين يديك, ولكن أرى أن تكتب إلى أهل البصرة فيفترقون, ففرقة تقيم في أهلها وفرقة يسيرون إلى إخوانهم بالكوفة, وأما ما ذكرت من كثرة القوم فلم نكن نقاتلهم فيما خلا بالكثرة ولكنا نقاتلهم بالنصر.

فوافق الصحابة على هذا الرأي وأخذوا به, ثم طلب منهم اختيار القائد المناسب للمعركة، قال أشيروا علي به واجعلوه عراقياً فخول الصحابة عمر بن الخطاب باختيار القائد لخبرته الكبيرة بالرجال فتم اختيار النعمان بن مقرن قائداً لمعركة نهاوند. واستشار الخليفة الصحابة في قضية كبيرة أخرى تتعلق بأرض السواد.

لما افتتح السواد شاور عمر رضي الله عنه الناس فرأي عامتهم أن يقسمه وكان بلال بن رباح من أشدهم في ذلك, وكان رأي عبد الرحمن بن عوف أن يقسمه, وكان رأي عثمان وعلى مع رأي عمر رضي الله عنهم, وكان رأي عمر أن يتركه ولا يقسمه حتى قال عند إلحاحهم اللهم اكفني بلالاً وأصحابه فمكثوا بذلك أياماً.

فقال إني وجدت حجة قال الله تعالى: {وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر:6], حتى فرغ من شأن بني النضير فهذه عامة في القرى كلها، ثم قال: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أهل الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]. ثم قال: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8].

ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] فهذا ما بلغنا والله أعلم للأنصار خاصة, ثم لم يرضي حتى خلط بهم غيرهم فقال: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10] فكانت هذه للمقاتلين وغيرهم, فكيف أقسمها بينهم فيأتي من بعدهم فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الأبناء وحيزت؟ ما هذا بالرأي.

فقال عبد الرحمن بن عوف فما الرأي؟ ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله عليهم, فقال عمر ما هو إلا كما تقول ولست أرى ذلك. والله لا يفتح بعدى بلد يكون فيها كبير نيل بل عسى أن يكون كلأ للمسلمين, فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها وأرض الشام بعلوجها فما يسد الثغور؟ وما يكون للذرية وللأرامل بهذا البلد وبغيره من أهل الشام والعراق؟ فأكثروا على عمر وقالوا أتقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا ولا أبناء القوم ولا أبناء أبنائهم ولم يحضروا؟ فكان عمر لا يزيد على أن يقول هذا رأي, قالوا فاستشر, فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا, أما عبد الرحمن بن عوف فكان رأيه أن تقسم لهم حقوقهم, ورأي عثمان وعلى وطلحة وابن عمر رأي عمر فصرفهم.

أرسل إلى عشرة من الأنصار, خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج من كبرائهم وأشرافهم فلما اجتمعوا عرض رأيه وحجته وقال إني لم أزعجكم إلا لأن تشتركوا في أمانتي فيما حملت من أموركم, فإني واحد كأحدكم وأنتم اليوم تقرون بالحق.. قالوا قل نسمع يا أمير المؤمنين.. قال قد رأيت أن أحبس بعلوجها وأضع عليهم فيها الخراج وفوق رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئاً للمسلمين المقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم. أرأيتم هذه الثغور؟ لابد لها من رجال يلزمونها, أرأيتم هذه المدن العظام كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر؟ لابد من شحنها بالجند وإدرار العطاء عليهم, فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج؟ فقالوا جميعاً الرأي لك, فنعم ما قلت ورأيت.. فقال قد بان لي الأمر فمن رجل له جزالة وعقل ويضع الأرض مواضعها ويضع العلوج ما يحتملون؟ فاجتمعوا له على عثمان بن حنيف وقالوا: تبعثه إلى أهم من ذلك, فان له بصراً وعقلاً وتجربة, فأسرع إليه عمر فولاه مساحة من أرض السواد.

المصدر
موقع التاريخ