الشورى في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه – الجزء الخامس

سمع عمر بن الخطاب تجمع الفرس لقتال المسلمين قبل معركة القادسية سنة 14هـ، فخرج رضي الله عنه خرج في أول يوم من المحرم من سنة أربعة عشر نزل على ماء يدعى صرار فعسكر به ولا يدري الناس ما يريد أيسير أم يقيم, وكانوا إذا أرادوا أن يسألوه عن شيء رموه بعثمان أو بعبد الرحمن بن عوف, وكان عثمان يدعى في زمان عمر رديفاً, وكانوا إذا لم يقدر هذان على شيء مما يريدون ثلثوا بالعباس.

قال عثمان لعمر ما بلغك؟ ما الذي تريد؟ فنادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس فأخبرهم الخبر الذي اقتصصناه في ذكر ما هيج أمر القادسية من اجتماع الناس على يزدجرد وقصد فارس أهلاك العرب, فقال العامة سر وسر بنا, فقال استعدوا فإني سائر إلى أن يجيء رأي هو أمثل من هذا, ثم بعث إلى أصحاب الرأي فاجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلام العرب فقال احضرونى الرأي فاجتمع ملؤهم على أن يبعث رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقيم ويرميه بالجنود.

فقال له عبد الرحمن أقم وابعث جنداً فليس انهزام جندك كهزيمتك. فنادي عمر الصلاة جامعة فاجتمع الناس إليه فقام في الناس فقال إن الله عز وجل قد جمع على الإسلام أهله فألف بين القلوب وجعلهم فيه إخوانا, والمسلمون كالجسد الواحد لا يخلو منه شيء من شيء أصاب غيره, وكذلك يحق للمسلمين أن يكونوا وأمرهم شورى بينهم من ذوى الرأي منهم, فالناس تبع لمن قام بهذا الأمر, تبع لأولى رأيهم ما رأوا لهم ورضوا به لهم من مكيدة في حرب كانوا فيه تبع لهم, يا أيها الناس, إني إنما كنت كرجل منكم حتى صرفني ذوى الرأي منكم عن الخروج, فقد رأيت أن أقيم وابعث رجلاً وقد أحضرت هذا الأمر من قدمت ومن خلفت. فقال عمر من ترونه, فقال سعد بن مالك الزهري فاستجاد قوله وأرسل أي سعد فأمره على العراق.

فترى أن الخليفة عمر بن الخطاب عدل عن رأيه ورأي عامة الناس إلى رأي أهل المشورة والخبرة من كبار الصحابة سواء في إقامته وبعث أحد الصحابة أو في اختيار الصحابي الذي يتولى القيادة في هذه المعركة الكبيرة.

يتكرر هذا مرة أخرى سنة 19هـ قبل معركة نهاوند وقد كانت عظماء الأعاجم من أهل قومس وأهل الري وأهل نهاوند قد تكاتبوا وتعاهدوا على أن يخرجوا من بلادهم وأن يغزوهم فبلغ ذلك أهل الكوفة ففزعوا بذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فلما قدموا إليه نادى في الناس إلى صلاة جامعة فاجتمع الناس, ثم صعد المنبر فقال أيها الناس, إن الشيطان قد جمع جموعاً فأقبل بها ليطفئوا نور الله إلا أن أهل قومس وأهل الري وأهل همذان وأهل نهاوند قد تعاهدوا على أن يخرجوا العرب من بلادهم ويغزوكم في بلادكم, فأشيروا على.

فقام طلحة فقال أنت ولي هذا الأمر, وقد أحكمت التجارب فادعنا نجب وأمرنا نطع فأنت مبارك الأمر ميمون النقيبة, ثم جلس فقال عمر تكلموا فقام عثمان فقال: أرى أن تكتب إلى أهل الشام فيسيرون من شامهم وتكتب إلى أهل اليمن فيسيرون من يمنهم وتسير أنت بنفسك من هذين الحرمين إلى هذين المصرين من أهل الكوفة والبصرة فتلقي جموع المشركين في جموع المسلمين, ثم قام علي بن أبي طالب فقال: إنك إن أشخصت أهل اليمن سارت الحبشة إلى ذراريهم, وإنك إن شخصت من هذين الحرمين انتفضت عليك الأرض من أقطارها حتى تكون ما تخلف خلفك من العورات أهم إليك مما بين يديك, ولكن أرى أن تكتب إلى أهل البصرة فيفترقون, ففرقة تقيم في أهلها وفرقة يسيرون إلى إخوانهم بالكوفة, وأما ما ذكرت من كثرة القوم فلم نكن نقاتلهم فيما خلا بالكثرة ولكنا نقاتلهم بالنصر.

فوافق الصحابة على هذا الرأي وأخذوا به, ثم طلب منهم اختيار القائد المناسب للمعركة، قال أشيروا علي به واجعلوه عراقياً فخول الصحابة عمر بن الخطاب باختيار القائد لخبرته الكبيرة بالرجال فتم اختيار النعمان بن مقرن قائداً لمعركة نهاوند. واستشار الخليفة الصحابة في قضية كبيرة أخرى تتعلق بأرض السواد.

لما افتتح السواد شاور عمر رضي الله عنه الناس فرأي عامتهم أن يقسمه وكان بلال بن رباح من أشدهم في ذلك, وكان رأي عبد الرحمن بن عوف أن يقسمه, وكان رأي عثمان وعلى مع رأي عمر رضي الله عنهم, وكان رأي عمر أن يتركه ولا يقسمه حتى قال عند إلحاحهم اللهم اكفني بلالاً وأصحابه فمكثوا بذلك أياماً.

فقال إني وجدت حجة قال الله تعالى: {وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر:6], حتى فرغ من شأن بني النضير فهذه عامة في القرى كلها، ثم قال: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أهل الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]. ثم قال: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8].

ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] فهذا ما بلغنا والله أعلم للأنصار خاصة, ثم لم يرضي حتى خلط بهم غيرهم فقال: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10] فكانت هذه للمقاتلين وغيرهم, فكيف أقسمها بينهم فيأتي من بعدهم فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الأبناء وحيزت؟ ما هذا بالرأي.

فقال عبد الرحمن بن عوف فما الرأي؟ ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله عليهم, فقال عمر ما هو إلا كما تقول ولست أرى ذلك. والله لا يفتح بعدى بلد يكون فيها كبير نيل بل عسى أن يكون كلأ للمسلمين, فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها وأرض الشام بعلوجها فما يسد الثغور؟ وما يكون للذرية وللأرامل بهذا البلد وبغيره من أهل الشام والعراق؟ فأكثروا على عمر وقالوا أتقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا ولا أبناء القوم ولا أبناء أبنائهم ولم يحضروا؟ فكان عمر لا يزيد على أن يقول هذا رأي, قالوا فاستشر, فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا, أما عبد الرحمن بن عوف فكان رأيه أن تقسم لهم حقوقهم, ورأي عثمان وعلى وطلحة وابن عمر رأي عمر فصرفهم.

أرسل إلى عشرة من الأنصار, خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج من كبرائهم وأشرافهم فلما اجتمعوا عرض رأيه وحجته وقال إني لم أزعجكم إلا لأن تشتركوا في أمانتي فيما حملت من أموركم, فإني واحد كأحدكم وأنتم اليوم تقرون بالحق.. قالوا قل نسمع يا أمير المؤمنين.. قال قد رأيت أن أحبس بعلوجها وأضع عليهم فيها الخراج وفوق رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئاً للمسلمين المقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم. أرأيتم هذه الثغور؟ لابد لها من رجال يلزمونها, أرأيتم هذه المدن العظام كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر؟ لابد من شحنها بالجند وإدرار العطاء عليهم, فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج؟ فقالوا جميعاً الرأي لك, فنعم ما قلت ورأيت.. فقال قد بان لي الأمر فمن رجل له جزالة وعقل ويضع الأرض مواضعها ويضع العلوج ما يحتملون؟ فاجتمعوا له على عثمان بن حنيف وقالوا: تبعثه إلى أهم من ذلك, فان له بصراً وعقلاً وتجربة, فأسرع إليه عمر فولاه مساحة من أرض السواد.

المصدر
موقع التاريخ

الشورى في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه – الجزء الرابع

كان للشورى دورٌ كبير في حباة الخليفة الصديق، وكان لمشورة عمر بن الخطاب واقتراحه على الخليفة الصديق أثر في قيام الخليفة بعمل عظيم ألا وهو جمع القرآن. أورد الإمام البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت قال: “أرسل إلى أبو بكر الصديق رضي الله عنه مقتل أهل اليمامة إن عمر أتاني فقال إن القتل استحر يوم اليمامة بقراء القرآن, واني أخشي إن استمر القتل بالقراء فيذهب كثير من القرآن, وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن, قلت لعمر كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر هذا والله خير, فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبى بكر وعمر رضي الله عنهما”.

فنجد إن الخليفة الصديق اخذ بمشورة عمر بن الخطاب لما رأي أن في ذلك مصلحة عامة وأيضاً لما كانت المصلحة لا تتعارض مع الوحي “الكتاب والسنة”.

وصورة أخرى من الشورى في حياة الخليفة الصديق ذلك أن أبا بكر لما أراد غزو الروم دعا علياً وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبا عبيدة بن الجراح ووجوه الأنصار والمهاجرين من أهل بدر وغيرهم رضي الله عنهم, فدخلوا عليه فقال أبو بكر رضي الله عنه: رأيت أن استنفر المسلمين إلى جهاد الروم بالشام ليؤيد الله المسلمين ويجعل كلمته هي العليا مع أن للمسلمين في ذلك الحظ الأوفر, لان من هلك منهم هلك شهيداً وما عند الله خير للأبرار ومن عاش عاش مدافعاً عن الدين مستوجباً من الله ثواب المجاهدين, وهذا رأيي الذي رأيته فليشر امرؤ على برأيه.

فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال الحمد لله الذي يخص بالخير من شاء من خلقه, والله ما استبقنا إلى شيء من الخير قط إلا سبقتنا إليه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم, والله رأيت لقاءك بهذا الرأي الذي رأيت فما قضى أن يكون حتى ذكرته فقد أصبت أصاب الله بك سبيل الرشاد, سرب إليهم الخيل في اثر الخيل وابعث الرجال بعد الرجال والجنود يتبعها الجنود فان الله ناصر دينه ومعز الإسلام بأهله.

ثم إن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قام فقال: يا خليفة رسول الله إنها الروم وبنو الصفر حد حديد وركن شديد ما أري أن نقتحم عليهم اقتحاماً ولكن نبعث الخيل فتغير في غواصي أراضيهم ثم ترجع إليك وإذا فعلوا ذلك بهم مراراً اضروا بهم وغنموا من أدنى أرضهم فقعدوا بذلك عن عدوهم, ثم نبعث إلى أرضي اليمن وأقاصي ربيعة ومضر ثم تجمعهم جميعا إليك ثم لئن شئت بعد ذلك غزوتهم بنفسك وان شئت أغزيتهم.

فقال أبو بكر: ما ترون؟ فقال عثمان بن عفان أنى أرى انك ناصح لأهل هذا الدين شفيق عليهم, فإذا رأيت رأياً تراه لعامتهم صالحاً فاعزم على إمضائه غير ظنين. فقال طلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة وسعيد بن زيد وكل من حضر المجلس من الصحابة والمهاجرين رضي الله عنهم, صدق عثمان, ما رأيت من رأي فامضه, وذكروا هذا وأشباهه وعلى رضي الله عنه في القوم لم يتكلم, فقال أبو بكر ما تري يا أبا الحسن, فقال إن سرت إليهم بنفسك أو بعثت إليهم نصرت عليهم إن شاء, فقال بشرك الله بخير, ومن أين علمت ذلك, قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “لا يزال هذا الدين ظاهراً على كل من ناوأه حتى يقوم الدين وأهله ظاهرون”.

وبعد أن استمع الخليفة إلى آراء كبار الصحابة, وبعد المشاورات والمداولات في هذه القضية الهامة, اصدر الخليفة الصديق القرار الذي توصل إليه الصحابة بعد الشورى، ثم إن أبا بكر رضي الله عنه قام في الناس فذكر الله بما هو أهله وصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس إن الله قد انعم عليكم بالإسلام وأكرمكم بالجهاد وفضلكم بهذا الدين علي كل دين, فتجهزوا عباد الله إلى غزو الروم بالشام فإني مؤمر عليكم أمراء وعاقد لكم الولاية فأطيعوا ربكم ولا تخالفوا أمراءكم لتحسن نيتكم وأشربتكم وأطعمتكم.

ولم تقتصر الشورى عند الخليفة الصديق عند قضايا الإدارة والسياسة بل كان يلتزم بالشورى حتى في القضاء لا سيما في المستجدات, أورد ابن القيم عن ميمون بن مهران أن أبا بكر رضي الله عنه كان إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله, فإذا وجد ما يقضى بينهم قضي به, وان لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضى بها, فان أعياه خرج فسأل المسلمين فقال أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضي في ذلك بقضاء, فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء فيقول أبو بكر الحمد الله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا, فان أعياه أن يجد فيه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم, فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به.

المصدر
موقع التاريخ

الشورى في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه – الجزء الثالث

الشورى في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه – الجزء الثالث
لقد شعر المسلمون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بالحاجة إلى رئيس يحفظ كيان الأمة الجديدة ويوجهه حيث ورد أنهم “كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة”. وكما قال أبو بكر مخاطباً المسلمين “لابد لكم من رجلٍ يلي أمركم ويصلي بكم ويقاتل عدوكم”, فكانت الضرورة ملحة لانتخاب خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبأسرع وقت ممكن ليدير شئون الأمة الإسلامية ويجمع كلمتها.

ولابد من أن نشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعهد بالخلافة لأحد من بعده, وخير دليل إلى ذلك إسراع المهاجرين والأنصار إلى انتخاب خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك قول عمر بن الخطاب “فان استخلف فقد استخلف من هو خير منى وان اترك فقد ترك من هو خير منى”.

وقد ورد عن على بن أبى طالب قوله: “لو عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً لأنفذنا عهده, ولو قال لنا قولاً لجادلنا عليه حتى نموت”. فيبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم ربي أصحابه على مبادئ الشورى ورسخها في نفوسهم فتركهم مؤهلين لاستخلاف من يريدون. لقد انعزل الأنصار بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة إلى سقيفة بني ساعدة, وكان عموم الأوس والخزرج يريدون مبايعة سعد بن عبادة, ولما بلغ المهاجرين مجمع الأنصار المذكور “بلغ أبا بكر وعمر المهاجرون فاتوا مسرعين”، فاحتج المهاجرون بقرابة الرسول صلى الله عليه وسلم منهم فقالوا “يا معشر الأنصار منا رسول الله فنحن أحق بمقامه”، وقالت الأنصار “منا أمير ومنكم أمير”، فقال أبو بكر: “منا الأمراء وانتم الوزراء, لا نختار دونكم بمشورة ولا نقضى دونكم الأمور”، وقال أيضاً “ولكن قريشاً أولى بمحمد منكم”.

ثم عرض عليهم عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح “فبايعوا أيهما شئتم” فأبيا عليه وقالا: والله ما كنا لنقدمك وأنت صاحب رسول الله وثاني اثنين, فضرب أبو عبيدة على يد أبى بكر وثنى عمر ثم بايع من كان معه من قريش ثم نادى أبو عبيدة “يا معشر الأنصار, لأنكم كنتم أول من نصر فلا تكونوا أول من غير وبدل”، ثم تكلم عبد الرحمن بن عوف فقال “يا معشر الأنصار إنكم وان كنتم على فضل فليس فيكم مثل أبى بكر وعمر وعلى”.

فنهض الأوس والخزرج يبايعون أبا بكر الصديق ولم يتخلف من الأنصار أحد, وكانت هذه البيعة الخاصة, أما البيعة العامة فكانت في المسجد حيث جلس أبو بكر الصديق وأقبل الناس عليه، مهاجرين وأنصار يبايعون.

ونلاحظ في بيعة أبى بكر الصديق رضي الله عنه ما يلي:

• أخذ المسلمين بنظر الاعتبار فضله وسبقه في الإسلام ومكانته عند الرسول صلى الله عليه وسلم حيث انه ثاني اثنين إذ هما في الغار, وهو الذي أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بإمامة المسلمين في الصلاة أيام مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه.

• بلغت أعلى درجات الانتخاب الحر والشورى، فلما تمت البيعة لأبى بكر أقام ثلاثة أيام يقيل الناس ويستقيلهم, يقول قد أقلتكم من بيعتي هل من كاره, هل من مبغض, فيقوم على في أول الناس فيقول والله لا نقيلك ولا نستقيلك أبداً, قد قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم لتوحيد ديننا من ذا الذي يؤخرك لتوحيد دنيانا.

• ويظهر التقليد القبلي في بيعة أبى بكر من قول عمر بن الخطاب: “من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته”، وقول أبى بكر أيضاً “نحن أوسع العرب انساباً, ليس قبيلة من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولادة”.

• وتظهر الشورى جلياً في إسراع الصحابة المهاجرين والأنصار على مبايعة أبى بكر الصديق على الخلافة وعدم تخلف احد منهم حيث رأوه أهلاً للخلافة وأحق بها, ثم جلوس أبي بكر بعد مبايعته ثلاثة أيام “يقيل الناس ويستقيلهم فيقول قد أقلتكم من بيعتي هل من كاره”، ليؤكد الشورى والانتخاب الحر في انتخابه وبيعته, ثم قوله مخاطباً المسلمين بعد بيعته “فإن أحسنت فأعينوني وان أسأت فقوموني”، يعكس التزامه بمبدأ الشورى في سياسته.

• ثم ظهور البيعة يعكس بشكل أو بآخر التزام المسلمين بالشورى فكانت البيعة هي العهد على الطاعة, ولم يكن هناك أي نوع من الإكراه في مبايعة أبى بكر الصديق بل بايعه الجميع في رضي وسرور، وسمي أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت مهمته خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به.

مما تقدم يتضح دور الشورى في انتخاب الخليفة الأول أبى بكر الصديق رضي الله عنه, ونجد مظاهر الشورى واضحة في سياسة الخليفة الصديق, بل كان له اقرب من مجلس استشاري يتألف من كبار الصحابة مثل عمر بن الخطاب, على بن ابى طالب, عثمان بن عفان, عبد الرحمن بن عوف, سعد بن أبى وقاص, أبي عبيدة بن الجراح, وبعض الأنصار مثل زيد بن ثابت يعرض عليهم قضايا الدولة الإدارية والسياسية والعسكرية, وكان المسجد النبوي في المدينة هو مكان اجتماعهم

وأحياناً يقتصر الشورى على البعض منهم وربما بادر بعضهم إلى تقديم المشورة والرأي دون طلب من الخليفة. روى ابن سعد “لما ولي أبو بكر رضي الله عنه قال أصحابه اقرضوا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يغنيه عن برديه إذا اخلقهما وضعهما واخذ مثلهما, وظهره إذا سافر ونفقته على أهله كما كان ينفق قبل أن يستخلف, فقال أبو بكر رضينا”, وبذلك كان للشورى اثر في إقرار المخصصات المالية وراتب من يتولى الخلافة.

المصدر
موقع التاريخ

الشورى ومكانتها في الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم – الجزء الثاني

أحيانا يتوجه النبي صلى الله عليه وسلم بطلب الشورى والتعرف على آراء المسلمين الحاضرين معه, نجد ذلك واضحا في استشارة النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة الذين خرجوا معه قبل معركة بدر.

يروى ابن هشام ذلك بقوله “وأتاه الخبر عن قريش بمسيرتهم يمنعون غيرهم, فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش , فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن, ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن , ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “أشيروا على أيها الناس” وإنما يريد الأنصار وذلك لأنهم مدد الناس وإنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا “يا رسول الله إنا براء من زمامك حتى يصل من ديارنا, فإذا أنت وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك من ما نمنع منه أبناءنا ونساءنا”, فكان رسول الله يتخوف ألا تكون الأنصار تري عليها نصرة إلا من دهمه من المدينة من عدوه, وأن ليس لهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم, فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سعد بن معاذ “والله لكأنك تريدنا يا رسول الله, قال أجل, قال آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة, فامض يا رسول الله كما أردت نحن معك, فوالله الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد, وما نكره أن تلقي بنا عدونا إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك, فسر بنا على بركة الله“, فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك, ثم قال “سيروا وابشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين, والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم“.

فكان لالتزام القائد بمبدأ الشورى وتعرفه على آراء جنده أثر في التخطيط الناجح للمعركة ورفع معنويات الجنود, فكانت الشورى عاملا مهما في تحقيق النصر.

وبعد معركة بدر استشار النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة في كيفية معاملة أسري بدر, فأشار عليه عمر بن الخطاب بقتلهم لأن هؤلاء الأسري كانوا صناديد المشركين وقاداتهم وأئمتهم, وأما أبو بكر فقد أشار على الرسول صلى الله عليه وسلم بأخذ الفدية لأنهم بنو العم والعشيرة والإخوان, كما أن أموال الفدية ستساعد على تقوية المسلمين, وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي الفداء لما رأي جمهور أصحابه يريدون ذلك. ثم نزلت الآيات القرآنية: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * َلوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنفال:67إلى 69]، وفي الآية عتاب واضح لرسول الله وأصحابه لأخذهم بخلاف الأولى وقبولهم بالفداء, فالموقف كان يتطلب القوة والحزم والشدة مع المشركين, ثم أجاز الله عملهم وأخذهم الفداء لعدم ورود نص مسبق ينهي عن ذلك, وفي ذلك إشارة إلى الجواز في الأمور التي لم يرد فيها نص.

وربما اقتصرت الشورى على البعض دون الكل, وأحياناً مشاورة الناس عن طريق ممثليهم أو زعمائهم أو أهل الخبرة فيهم, ففي بيعة العقبة الثانية طلب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أن يخرجوا له اثني عشر نقيباً, تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس, وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلى المدينة المنورة فقد اختار أربعة عشر رجلاً وكان يرجع إليهم في الرأي.

بل كان للنبي صلى الله عليه وسلم أقرب إلى هيئة استشارية يستشيرهم في القضايا العامة تضم كبار الصحابة , منهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب, أورد الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أبو بكر وعمر: “إن الناس ليزيدهم حرصاً على الإسلام أن يروا عليك زياً حسناً”, قال “وايم والله لو أنكما تتفقان على أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبداً”، وفي رواية “ولو أنكما تتفقان في مشورة ما خالفتكما”.

وربما كانت المشاورة لأصحاب الشأن وأهل الخبرة دون غيرهم, فمثلاً أثناء حصار الأحزاب للمدينة سنة 5هـ فلما اشتد البلاء بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المري قائد غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابا إلى ذلك, فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقالا: “يا رسول الله شيء تحب أن تصنعه أم شيء أمرك الله به أو شيء تصنعه لنا؟”، فقال: “بل لكم, رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم”، قال سعد بن معاذ “قد كنا نحن وهم على الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا منا إلا قري أو بيعاً, فحين أكرمنا الله بالإسلام نعطيهم أموالنا؟ ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم”. فترك ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا يوضح فهم الصحابة للشورى ومجالاتها المسموح بها, وتخصيص النبي بالمشورة لهذين الصحابيين دون غيرهما لارتباط الأمر بهما وبقومهما, فهما زعماء الأوس والخزرج.

المصدر
موقع التاريخ

الشورى ومكانتها في الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم – الجزء الأول

ترسخت الشورى أكثر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت آيات قرآنية تدعو المسلمين إلى التشاور وتؤكد على المشورة, بل سميت سورة قرآنية كاملة بسورة الشورى تأكيداً لهذا المبدأ وضرورته في حياة المسلمين, قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]. وأيضاً قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأمرهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الشورى:38].

وورد في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤكد الشورى, منها “ما ندم من استشار وما خاب من استخار”، و “ما هلك امرؤ من مشورة قط”، و “ما تشاور قوم إلا هدوا إلى أرشد أمرهم”، و “المستشار مؤتمن”. وروى سعيد بن المسيب عن على رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولم تمضى فيه منك سنة, قال “أجمعوا له العالمين أو قال العابدين من المؤمنين فافعلوا شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد”.

وورد أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من أراد أمراً فشاور فيه امرؤاً مسلماً وفقه الله لأرشد أموره”، وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير من باطنها, وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظاهرها”.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمارس الشورى بنفسه, فقد ورد عن أبى هريرة أنه قال “ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم”، فقد كانت سياسة النبي صلى الله عليه وسلم قائمة على أساس الشورى في القضايا التي ليس فيها وحى, ولم تكن هناك طريقة ثابتة للشورى بل كانت تطبيقاتها متنوعة بحسب الحادثة وأهميتها والظروف المحيطة بها, ونذكر صوراً من النهج النبوي في الشورى:

الأخذ برأي ومشورة من شخص واحد وربما شخصين أو أكثر ما دام الأمر لا يتعارض مع نص يوافق عليه الجميع ويحقق مصلحة عامة, وأمثلة ذلك كثيرة, فقبل معركة بدر اختار الرسول صلى الله عليه وسلم موقعاً ليكون للحرب مع المشركين ولكن حباب بن المنذر بن الجموح اعترض على هذا الاختيار بقوله “يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه, أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟”، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “بل هو الحرب والمكيدة”, فقال “يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل, فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لقد أشرت بالرأي”, فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ثم أمر بالقلب فغورت”.

بفضل الشورى والتزام النبي صلى الله عليه وسلم بها أصبح العامل الجغرافي لصالح المسلمين فكانت حركة المسلمين أثناء القتال أسهل وشئونهم الإدارية أفضل مما أدى إلى رفع معنوياتهم وساعد ذلك إلى إحراز النصر.

وأيضاً قبيل معركة بدر أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمشورة سعد بن معاذ حينما أشار قائلاً “يا نبي الله ألا نبني عريشاً لتكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقي عدونا, فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا, وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا, فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم, ولو ظنوا أنك تلقي حرباً ما تخلفوا عنك, يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك”، فأثني رسول الله خيراً ودعا له بخير, ثم بني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً وهو شبه خيمة يستظل بها ويراقب المعركة ويتخذها مقراً لقيادة المسلمين في القتال.

وحينما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم تحزب الأحزاب وخروجهم لقتال المسلمين في السنة الخامسة للهجرة استشار أصحابه فيما يفعل, فأشار سلمان الفارسي رضي الله عنه بالخندق وقال “يا رسول الله إنا كنا بأرض فارس إذا تخوفنا الخيل خندقنا علينا”, فأعجبهم ذلك وأحبوا الثبات في المدينة, وأمرهم رسول الله بالجد ووعدهم بالنصر إذا هم صبروا واتقوا وأمرهم بالطاعة.

وهكذا باتباع سياسة الشورى استطاع المسلمون الدفاع عن دولتهم والانتفاع من خبرات وتجارب الأمم الأخرى.

ونجد الشورى أيضاً بعد صلح الحديبية سنة 6هـ, إذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنحر والحلق والتحلل من الإحرام فلم يجبه رجل إلى ذلك إذ كانوا يرجون دخول مكة وزيارة البيت الحرام فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخل إلى أم سلمة مغضباً شديد الغضب, لكن أم سلمة أشارت عليه ألا يكتفي بالقول بل الأفضل أن يباشر هذا بنحر هديه أمامهم وعند ذلك سيقتدون به لأنهم سيوقنون أن قراره نهائي لا رجعة فيه, فقبل مشورة أم سلمة وقام بنحر هديه فسارع المسلمون إلى الاقتداء به وطاعته.

وهكذا نجد الشورى أنقذت المسلمين من الهلاك والفرقة والاختلاف, والأخذ بها من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعد المسلمين على طاعة أوامر رسول الله.

المصدر
موقع التاريخ

ملامح المجتمع المدني في حكومة الرسول صلى الله عليه وسلم

أول خطوة بدأ بها الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام هي لمّ شتات قبائل العرب وتلوناتها في إطار وحدة اجتماعية متماسكة، “فالمسلم أخو المسلم” وعملية المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين في المدينة المنورة تعد عملية مثالية لم يعرف لها التاريخ صنواً، فكيف لأعرابي يرى كل من لا ينتمي لقبيلته أجنبياً، أن يتخذ له أخاً من قبيلة أخرى بعيدة، بل إن بعض الأنصار طلق بعض زوجاته، لتزويجها من أحد المهاجرين القادمين من صحراء مكة، وهنا كان للمؤسسة الاجتماعية التي شيدها الرسول عليه الصلاة والسلام الدور الأول في إرساء قواعد هذا التشكيل المجتمعي الجديد فكان المسجد الجامع أول مؤسسة (قانونية) شرعية تمثل رمز الدولة الإسلامية الحديثة بموازاة المؤسسة غير الشرعية التي أراد تأسيسها آخرون، كما هو المشهور في حادثة (مسجد الضرار).

بينما كان الحث على حضور المسجد الجامع أمراً واجباً، وبدأ الشكل المؤسساتي يتبلور داخل هذه المؤسسة الصغيرة، وتتبين معالم الدولة المدنية من تعليمات هذه المؤسسة التي جمعت بين القداسة في المفهوم الديني والشعبية في العرف الاجتماعي، حتى أن التجمعات (الحزبية) بدأت من أروقة هذا المسجد في دلالة واضحة على مدنية الدولة وتحضرها، خصوصاً وأنها نبعت من مجتمع أبعد ما يكون عن الأشكال الحضارية.

كما كان لشخصية الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام وجو الحرية الذي أشاعه بين أفراد هذا المجتمع الجديد الدور الأول في تسريع عملية الإنماء الاجتماعي الحضري للدولة الإسلامية، فيأتي الأعرابي من أقاصي الجزيرة ويمسك بالنبي (قائد الدولة) ويقول (أعدل يا محمد) وحينما يحاول بعض الصحابة معاقبته على هذا الفعل، يرفض الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ذلك ويجزل العطاء لهذا الأعرابي.

هكذا كانت البداية، فعظم المسؤولية يكون في الجسر الموصل إلى رعاية المجتمع وتلبية مطالبه الأساسية. وقد تظافرت عدة جهود في إنماء المجتمع المدني في المدينة المنورة، أهمها شخصية قائد الدولة، ثم الفطرة البدوية التي تختزن العوامل الأخلاقية في أفراد الجزيرة وبالذات سكنة المدينة المنورة والتي تعد أحد أسباب اختيار النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام لها كمركز لإقامة دولته.

وظل الهدف الأسمى لهذه الدولة هو الإنسان في حريته وضمان أمنه الاقتصادي والاجتماعي، واتضح مظهر التفاعل الاجتماعي مع السلطة الدينية بحيث اتخذ أشكالاً مثالية؛ فالطاعة الجماهيرية المنقطعة النظير جاءت كنتيجة لعدالة هذه الدولة ورغبتها في خدمة المجتمع ولم يكن القائد أو من يعينه هو المسؤول الوحيد في الدولة والمجتمع بل إن الفرد أي فرد هو مسؤول بنص الحديث الشريف: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”.

والغاية الأخلاقية للدولة لم تكن مستمدة من قانون ارتآه النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام – شخصياً – بل هو تعليم سماوي في قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى} [النجم: 3]، وقوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إنّ الله عزيزٌ حكيمٌ} [التوبة: 71].

المصدر
موقع التاريخ

الهجرة النبوية دروس وعبر الجزء الثاني

لقد كانت الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة انطلاقة جديدة لبناء دولة الإسلام، وإعزازاً لدين الله تعالى، وفاتحة خير ونصر وبركة على الإسلام والمسلمين. لذا فإن دروس الهجرة الشريفة لا تنتهي ولا ينقطع مداها، ومنها:

دور المرأة المسلمة في الهجرة الشريفة
دور المرأة المؤمنة في تحمل أعباء الدعوة كبير وعظيم، فقد كانت خديجة رضي الله عنها الملجأ الدافئ الذي يخفف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحينما نزل عليه الوحي في غار حراء وجاءها يرتجف ويقول زملوني زملوني, ولما ذهب عنه الرَّوْع. قال لخديجة: “قد خشيت علي؟”. فقالت له: كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
ويتجلى دور المرأة المسلمة في الهجرة الشريفة من خلال الدور الذي قامت به عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما حيث كانتا نعم الناصر والمعين في أمر الهجرة؛ فلم يخذلا أباهما أبا بكر مع علمهما بخطر المغامرة، ولم يفشيا سرّ الرحلة لأحد، ولم يتوانيا في تجهيز الراحلة تجهيزاً كاملاً، إلى غير ذلك مما قامتا به.
وهناك نساء أخريات كان لهن دور بارز في التمهيد لهذه الهجرة المباركة, منهن: نسيبة بنت كعب المازنية، وأم منيع أسماء بنت عمرو السلمية.

الصداقة الحقيقية مبادئ ومواقف
كان من فضل الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن جعل أفئدة من الناس تهوي إليه، وترى فيه المصحوب المربي والمعلم، والصديق؛ مما جعل سادة قريش يسارعون إلى كلماته ودينه مثل أبو بكر، وطلحة، والزبير، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، متخلين بهذه المسارعة المؤمنة عن كل ما كان يحيطهم به قومهم من مجد وجاه، متقبلين في نفس الوقت حياة تمور مورًا شديدًا بالأعباء والصعاب والصراع.
ولقد توفرت في أبي بكر خصال عظيمة جعلته خير ناقل لأثر الصحبة، كان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر فحسن مجالسته هذا كان سببا في إسلام السابقين فجاء بهم إلى المصحوب الأعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا وصلوا. فالصحبة الصالحة لها أثرها البالغ في ثبوت الإيمان في القلوب.
وحينما عاد أبو بكر من رحلة التجارة وأبلغه القوم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم يزعم أنه يوحى إليه فأجابهم إن قال فقد صدق فما أن حط عنه عناء السفر، حتى أقبل إلى النبي عليه الصلاة والسلام متأكدا من ذلك، فما أن سمع من النبي صلى الله عليه وسلم حتى فاضت عيناه وقبل صاحبه الذي ما تردد في النطق بأعظم كلمة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
وحينما أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة، اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون رفيقه في هجرته، وظلا ثلاثة أيام في غار ثور، وحينما وقف المشركون أمام الغار، حزن أبو بكر وخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلي قدميه، لأبصرنا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما”
وهذا الحب هو الذي أبكى أبا بكر فرحاً بصحبته صلى الله عليه وسلم.إن هذا الحب هو الذي أرخص عند أبي بكر كل ماله ليؤثر به الحبيب صلى الله عليه وسلم على أهله ونفسه. عن أنس رضي الله عنه قال رسول صلى اللّه عليه وسلم لحسان بن ثابت: “هل قلت في أبي بكر شيئاً؟”، فقال: نعم. فقال: “قل وأنا أسمع”. فقال:

وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ***** طاف العدوّ به إذ صعَّد الجبلا
و كـان حِـبِّ رسـول اللّه قـد عـلـمـوا ***** من البرية لم يعدل به رجلاً

فضحك رسول اللّه حتى بدت نواجذه، ثم قال: “صدقت يا حسان هو كما قلت”. فقد كان الصديق رضي الله عنه مثلًا رائعًا في أن الصداقة مبادئ ومواقف، وليست شعارات وأقوال.

لقد كانت الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة انطلاقة جديدة لبناء دولة الإسلام، وإعزازاً لدين الله تعالى، وفاتحة خير ونصر وبركة على الإسلام والمسلمين.

المصدر
موقع التاريخ

الهجرة النبوية دروس وعبر – الجزء الأول

لقد كانت الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة انطلاقة جديدة لبناء دولة الإسلام، وإعزازاً لدين الله تعالى، وفاتحة خير ونصر وبركة على الإسلام والمسلمين. لذا فإن دروس الهجرة الشريفة لا تنتهي ولا ينقطع مداها، ومنها:

المؤمن يحسن التوكل على الله تعالى
وحسن التوكل على الله تعالى، يعني صدق اعتماد القلب على الله في دفع المضار وجلب المنافع، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي إلا الله ولا يمنع إلا الله ولا يضر ولا ينفع سواه, قال تعالى : {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [سورة الطلاق: 2], وقال صلى الله عليه وسلم: “لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا”.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم في رحلة الهجرة الشريفة متوكلاً على ربه واثقاً بنصره يعلم أن الله كافيه وحسبه، ومع هذا كله لم يكن صلى الله عليه وسلم بالمتهاون المتواكل الذي يأتي الأمور على غير وجهها. بل إنه أعد خطة محكمة ثم قام بتنفيذها بكل سرية وإتقان.
فالقائد: محمد، والمساعد: أبو بكر، والفدائي: علي، والتموين: أسماء، والاستخبارات: عبد الله، والتغطية وتعمية العدو: عامر، ودليل الرحلة: عبد الله بن أريقط، والمكان المؤقت: غار ثور، وموعد الانطلاق: بعد ثلاثة أيام، وخط السير: الطريق الساحلي. وهذا كله شاهد على عبقريته وحكمته صلى الله عليه وسلم، وفيه دعوة للأمة إلى أن تحذو حذوه في حسن التخطيط والتدبير وإتقان العمل واتخاذ أفضل الأسباب مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب أولاً وأخراً.

الصبر واليقين طريق النصر والتمكين
بعد سنوات من الاضطهاد والابتلاء قضاها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة يهيئ الله تعالى لهم طيبة الطيبة، ويقذف الإيمان في قلوب الأنصار، ليبدأ مسلسل النصر والتمكين لأهل الصبر واليقين, قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)} [سورة غافر]. وإن طريق الدعوة إلى الله شاق محفوف بالمكاره والأذى. لكن من صبر ظفر ومن ثبت انتصر.
ولقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أذى قريش وكان النبي صل الله عليه وسلم يطمأنهم بأن النصر قادم, فحينما جاءه خباب بن الأرت يشكو ظلم قريش, قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو لَنَا، فَقَالَ: “قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ، لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ”.
وفي الهجرة المباركة لما خاف الصديق على رسول الله من أذي قريش, وقال لرسول الله: “لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَنْظُرُ إِلَى قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ” رفض الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الرسالة السلبية وقال له في ثبات المؤمن ويقينه بربه: “يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا”. فأنزل الله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة 40].

الله تعالى يؤيد رسله بالمعجزات
الله تعالى قد يبتلي أولياءه وأحبابه من أصحاب الرسالات والدعوات بالمحن والشدائد, ولكن لا يتركهم لتلك المحن والشدائد حتى تعصرهم, بل يمحصهم, ويرفع من قدرهم, ثم يؤيدهم سبحانه بالمعجزات التي تثبت صدق دعواهم, قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [سورة الحج 38]. وفي رحلة الهجرة الشريفة تجلت معجزات وآيات وبراهين تؤكد صدق دعوى النبي صلى الله عليه وسلم, فهل رأيتم رجلاً أعزلاً محاصراً يخرج إلى حيث المجرمين ويخترق صفوفهم فلا يرونه ويذر التراب على رؤوسهم ويمضي؟!، وهل رأيتم عنكبوتاً تنسج خيوطها على باب الغار في ساعات معدودة؟!
وهل رأيتم فريقاً من المجرمين يصعدون الجبل ويقفون على الباب فلا يطأطيء أحدهم رأسه لينظر في الغار؟!، هل رأيتم فرس سراقة تمشي في أرض صلبه فتسيخ قدماها في الأرض وكأنما هي تسير في الطين؟!، هل رأيتم شاة أم معبد الهزيلة يتفجر ضرعها باللبن؟!

قال البوصيري

ومــا حـوى الغـــارُ مِن خيـرٍ ومِن كَرَمِ ***** وكُــلُّ طَرْفٍ مِنَ الكفارِ عنه عَمِي
فـالصدقُ في الغــارِ والصدِّيقُ لم يَرِمَا ***** وهُم يقولون مـا بالغــارِ مِن أَرِمِ
ظنُّوا الحمامَةَ وظنُّوا العنكبوتَ على ***** خــيرِ البَرِّيَّـةِ لم تَنسُـجْ ولم تَحُمِ
وِقَــــايَـةُ اللهِ أغـنَـتْ عَـن مُـضَـــاعَـفَـةٍ ***** مِنَ الدُّرُوعِ وعن عــالٍ مِنَ الأُطُمِ

إن هذه المعجزات لهي من أعظم دلائل قدرة الله تعالى، وإذا أراد الله نصر المؤمنين خرق القوانين، وقلب الموازين.
المصدر
موقع التاريخ

منهاج الاستقطاب عند النبي صلى الله عليه وسلم

كان الداعي إلى الله بإذنه يجتمع بالخلية الدعوية في المقر السري “ابن الأرقم”، يرشد ويعلم على غفلة من زعماء الشرك، ومنذ أن انضم الجندي حمزة بن عبد المطلب وبعض وجهاء قريش، الذين لهم مكانة في المجتمع كعمر بن الخطاب، زادت الحركة قوة ونزل قوله تعالى: ” فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ” فاتسع نطاق الدعوة من المجال الخاص إلى المجال العام، وحققت انتشارا وتغلغلت في كل القبائل تقريبا.

كانت التعددية القبائلية مقدمة مباركة لانتشار الإسلام، وإشارة صريحة لعموم الرسالة وعالميتها، وترجمة صحيحة لطموحاتها الإنسانية، وعامل حماية للدعوة من آفة التعصب القبلي، والانتساب للأرض أو العرق في مقابل الانتساب للدين والأمة. قال العمري: و”لقد انتشر الإسلام في المرحلة المكية في سائر فروع قريش بصورة متوازنة”.

لتنقلب الأخوة الإيمانية على العصبية القبلية ، وتحل الروابط الإيمانية محل الدموية. في إطار سياسة الاستقطاب الدعوي، “عمل النبي ما في وسعه من أجل توسيع نطاق قاعدة الدعوة، لتشمل كل أو معظم الجهات والفئات، ليشكل بذلك النواة الأولى لمشروع الأمة، البديل عن مشروع القبلية”.

وهذه صورة عن التركيبة القبلية الأولى لرجال الدعوة في بداية الاستقطاب: فأبو بكر الصديق قرشي تيمي، وعمر بن الخطاب قرشي عدوي، وعثمان بن عفان قرشي أموي، وعلي بن أبي طالب قرشي هاشمي، والزبير بن العوام قرشي أسدي، وعبد الرحمن بن عوف قرشي زهري، وعثمان بن مظعون قرشي جمحي، وابن أم مكتوم قرشي عامري، وعبد الله بن حذافة قرشي سهمي، والمهاجر بن أبي أمية أخو أم سلمة زوج النبي قرشي مخزومي، والأرقم بن أبي الأرقم بن أسد بن عبد الله بن عمر مخزومي، ومحمد بن أبي حذيفة قرشي عبشمي، ومعمر بن أبي سرح قرشي فهري، ومصعب بن عمير بن هاشم قرشي عبدري.

وعدد من المسلمين في هذه المرحلة لم يكونوا من عشائر قريش، بل كانوا من المستضعفين، أو من الموالي الذين لا منعة لهم ولا قوة. بمعنى أنهم لم يكونوا من العائلات الكبيرة الشريفة، فعبد الله بن مسعود هذلي مضري، من هذيل حليف بني زهرة، وعمار بن ياسر من حلفاء بني مخزوم، وكان من المستضعفين الذين يعذبون بمكة ليرجع عن دينه، ومسعود بن الربيع أعرابي وهو أحد حلفاء بني زهرة.

ومحمد بن مسلمة الأنصاري، حليف لبني الأشهل، وعبد الله بن جحش من حلفاء بني أمية، وصهيب الرومي عربي عراقي نمري من بني النمر بن قاسط، هرب من الروم فأتى مكة فحالف ابن جدعان؛ وكان من متقدمي الإسلام المعذبين في الله، واقد بن عبد الله بن عبد مناف تميمي حليف بني عدي وزيد بن حارثة كلبي، ومولى رسول الله، والطفيل بن عمرو دوسي من قبيلة دوس، وأبو ذر الغفاري، من بني غفار، أسلم قديماً، ويقال كان خامس من دخل في الإسلام، ثم انصرف إلى قومه فأقام عندهم إلى أن قدم المدينة بعد الخندق، وخباب بن الأرت كان أبوه سوادياً من كسكر، فسباه قوم من ربيعة وحملوه إلى مكة فباعوه، سباع بن عبد العزى الخزاعي، حليف بني زهرة، وعامر بن فهيرة مولى الطفيل بن عبد الله الأزدي، وكان الطفيل أخ عائشة لأمها أم رومان، أسلم قديماً قبل دخول رسول الله دار الأرقم، وكان من المستضعفين يعذب في الله، فلم يرجع عن دينه، واشتراه أبو بكر وأعتقه.
ولم يقتصر هذا التنوع على مكة بل تأكد في المدينة حين أشرف مصعب بن عمير على الدعوة، فاخترق بسياسة الاستقطاب كل القبائل تقريباً. وكذلك تم استقطاب العنصر النسوي لأهميته في تبليغ الدعوة للإناث (خاصة) ولغيرهن، فتاريخ الحركات الإصلاحية أثبت كفاءة المرأة في تبليغ الدعوة.

غالبية المنخرطات في التنظيم الدعوي الجديد انضممن عن طريق أزواجهن أو أحد أقاربهن، كما هو حال فاطمة بنت الخطاب، التي دعاها زوجها إلى الخلية فأجابت. وسمية أم عمار التي دعاها عمار ابنها فانخرطت في العمل، وبذلك فهن بالضرورة يمثلن مختلف البطون.
لقد صار هؤلاء الصحابة الأخيار دعاة إلى الله بإذن من رسول الله، كل يدعو حسب طاقته ومنهجه وأسلوبه في التأثير العقلي والوجداني. قال ابن الجوزي “كان أبو بكر يدعو ناحية سرّاً، وكان سعيد بن زيد، مثل ذلك، وكان عثمان مثل ذلك، وكان عمر بن الخطاب يدعو علانية، وحمزة بن عبد المطلب وأبو عبيدة بن الجراح، مما أغضب زعماء قريش وظهر منهم لرسول الله الحسدُ والبغي”.

لقد كان واضحا منذ الوهلة الأولى أن الإسلام ليس خاصا بمكة وقريش، وقد كان منتظراً كذلك أن تخرج الدعوة إلى العلن في يوم ما لتواجه المشركين بشجاعة وحكمة، ولتكسر الطوق وتشق الأصقاع وتصل إلى الناس جميعا، لكن السؤال الملح على كل لبيب يدرك كنه الدعوة، وجاذبيتها المغناطيسية للفقراء والأغنياء.

المصدر
موقع التاريخ

اقرأ .. أول ما نزل من القرآن الكريم

دخل جبريل عليه السلام في غار حراء، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “اقْرَأْ”. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5].

وقفة مع الآيات الخمس الأولى التي نزلت
الحق أننا ينبغي أن نقف وقفة مع الآيات الخمس الأولى التي نزلت، وخاصة مع الكلمة الأولى التي نزلت من هذه الآيات الخمس على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث جاءت الآيات تحثُّ على موضوع واحد؛ وهو موضوع العلم، وتختار وسيلة واحدة من وسائل التعلُّم وهي القراءة؛ لتُصبح هي البداية لهذا المنهج الرباني العظيم.

إن القرآن الكريم يزيد عن 77 ألف كلمة، ومن بين كل هذا الكمِّ من الكلمات، كانت كلمة: “اقرأ”. هي الأولى في النزول، كما أن في القرآن الكريم آلافًا من الأوامر مثل: {أَقِمِ الصَّلاَةَ} [هود: 114]، ومثل: {آتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، ومثل: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} [البقرة: 218]، ومثل: {وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17]، ومثل: {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 254].

من بين كل هذه الأوامر نزل الأمر الأول: “اقرأ”، مع الأخذ في الاعتبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب، وقد تحلَّى بآلاف الفضائل والأخلاق الحميدة، وكان من الممكن أن يتحدَّث القرآن الكريم في أولى آياته عن أحد هذه الأخلاق العظيمة؛ لكن يبدو أن الإشارة واضحة من أن مفتاح بناء هذه الأُمَّة، وأول الطريق الصحيح هو “العلم”، وإحدى أهم وسائل التعلُّم كما أشار ربُّنا عز وجل هي القراءة، وبالتالي كرَّر الأمر بالقراءة في الآيات الخمس الأولى مرتين.

وذكر كلمة العلم بمشتقاتها ثلاث مرات، وذكر القلم وهو وسيلة من وسائل الكتابة مرَّة، كل ذلك في خمس آيات؛ مما يدلُّ على أهمية العلم والقراءة في حياة أُمَّة الإسلام، ولَفْت النظر إليه كان ضرورةً؛ ليعلم المسلمون كيف يبدءون بناء أمتهم بعد ذلك، كما لفتت الآيات النظر إلى أن القراءة المطلوبة هي قراءة بسم الله عز وجل.

ومعنى هذا أنها قراءة تُرضي الله ولا تغضبه، فهي ليست قراءة منحرفة، وليست قراءة تافهة أو ضالَّة أو مُضِلَّة؛ إنما هي قراءة كما أمر الله عز وجل باسمه تعالى، وعلى الطريقة التي علَّم بها الله عز وجل عباده المؤمنين.

كذلك الآيات تتحدَّث عن صفة من صفات الله عز وجل لم يَدَّع أحد من المشركين أن هذه الصفة منسوبة لأحد الآلهة التي يعبدونها من دون الله، وهي صفة الخلق؛ حيث قال الله عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]؛ وهذا لكي ينتفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أي نوع من الالتباس في الذي رآه.

رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ زمن وهو يبحث عن خالق هذا الكون، وخالق الناس، وكيف يمكن أن يعبده، فيلفت الله عز وجل نظره إلى أن جبريل الذي جاءه بهذه الآيات يتحدَّث عن الإله الذي خلقه وخلق السماوات والأرض، وخلق كل شيء؛ ومن ثَمَّ يأخذ انتباه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعل وعيه يُدرك أنه في موقف حقيقي، وليس في وهم أو خيال.

المصدر
موقع قصة الإسلام